الجعفري: لابد من وقفة واعية ومسؤولة لتقييم التظاهرات المستمرة لأكثر من مائة يوم التي لم تسجل أيَّ سابقة مثيلة لها.. تقادم الزمن لا يسقط الحقوق ولا يعذر الجناة ممّا يستدعي تحديدا دقيقا في معرفتهم ومساءلتهم والابتعاد عن التوصيفات الغامضة كمصطلح الطرف الثالث الجعفريّ: جرائم الاغتيال والقتل والتمثيل بجُثث الموتى انتهاك سافر لحُقوق الإنسان وهو جرس إنذار بتهديد السلم المُجتمَعي وزرع الفتنة ونشر الفوضى في وقت يجب أن يتحمَّل الجميع مسؤوليته الوطنية عبر التعاون على حفظ وحدة الصفِّ الوطني وعدم زعزعة الأمن والاستقرار الجعفريّ: يجب مُحاسَبة كلّ من تورَّط في إراقة دماء أبنائنا المُتظاهِرين والقوات الأمنيّة وإنزال القصاص العادل بحقهم.. الردّ العراقيّ الوطنيّ المُوحَّد هو الذي جعل الهمَّ العراقيَّ فوق كلِّ الهُمُوم وإنسانه فوق كلِّ اعتبار وساهم في تجنب المزيد من الأزمات الجعفريّ: التظاهرات تعبيرٌ عن المُطالَبة عن كلِّ حقّ مهدور وكرامة مُنتهَكة ومال مسروق وسياسة فاسدة وتدخّل أجنبيّ فاحش!!.. يجب منع استخدام السلاح ضدّ المُتظاهِرين وتفقُّد عوائل الشهداء ورعايتهم.. وإلغاء بدعة المُحاصَصة "سيِّئة الصيت" في التشكيلات الحكوميّة رسائل الأيام للدكتور إبراهيم الجعفري الجعفريّ للعرب: لا تنظروا إلى حجم سكاننا بل انظروا إلى قوة إرادتنا وإصرارنا على حقوقنا.. المطلوب من الجامعة العربية أن ترسم أولوياتها على ضوء المصالح والمخاطر وتُفكـِّر بحجم الإنسان العربيِّ والقدر العربيِّ.. وأن ننتهي بنتائج ولا نكتفي بالكلمات والخطب الجعفريّ للعرب: أصبح صوت العراق مسموعاً وأصبحت إنجازاته موضع احترام العالم.. نحتاج إلى وُقوفكم إلى جانبنا ونحن لا نطلب دماء أبنائكم بدلاً من دماء أبنائنا ولكن عليكم مُساعَدتنا في مُواجَهة داعش خُصُوصاً أنَّهم جاؤوا من بلدانكم ومن أكثر من مئة دولة الجعفريّ لوزراء الخارجيَّة العرب: نحن لا نـُمثـِّل حُكـَّاماً وحكومات فقط، بل نـُمثـِّل شُعُوباً عربيَّة وإضعاف أيِّ دولة إضعاف لنا جميعاً.. داعش يستهدف كلَّ دول العالم خُصُوصاً الدول العربيَّة؛ لذا عليكم أن تُتابعوا ما يجري في العراق خطوة خطوة الجعفريّ من جنيف: العراق من الدول التي تعاني من نار الإرهاب ومن الدول المنتصرة على الإرهاب وحاولتْ بعض الجهات الدوليَّة التي تدعم الإرهاب إلى إرباك جهدنا و‏تزييف الحقائق واتهام مُؤسَّسة الحشد الشعبيِّ وبلا دليل، وهي لا تخدم في حقيقتها بذلك إلا الإرهاب الجعفريّ: تـُوجَد الآن دول عظمى تفكِّر بعقليَّة (كاوبوي) -رُعاة البقر-، بينما العراق يتعامل بطريقة إنسانيَّة حتى مع خصمه؛ لأنه تعلـَّم على شيء اسمه كيفيَّة غضِّ النظر عن الجزئيَّات، ويفكر بالحلول أكثر ما يفكر بالمشاكل

كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة بمناسبة تخرَّج الدورة 27 الدبلوماسيّة
الاخبار | 12-04-2016

الجعفريّ: نحن نتطلع منذ زمن أن نرى دبلوماسيّة عراقيّة تضاهي دبلوماسيّات العالم، بل تتفوَّق عليها؛ ليس من عُقدة التميُّز، ولكن من حقيقة أنَّ العراق يمتلك مُقوِّمات التفوُّق في هذا المجال. فينبغي أن يأخذ حِصَّته بفرض نفسه في أروقة العالم.

الجعفريّ: العراق ليس البلد الأكبر، لكنه البلد الأكثر تنوُّعاً في الكثير من المُكوِّنات: التنوُّع الدينيّ، والمذهبيّ، والقبليّ، والقوميّ، والسياسيّ. هنا تلتقي كلها في العراق مثلما يلتقي نهرا دجلة والفرات.

الجعفريّ: نأمل من أبنائنا وبناتنا أن ينهضوا بمَهمَّة الدبلوماسيّة، وأن يُعرِّفوا بها العالم يوم كان العالم سادراً في سُبات عميق كانت أجراس الحضارة تدقّ هنا في العراق. ما كان عندهم حضارة، ولم يعرفوا الحضارة كان العراق مَن حَمَلَ شعار الحضارة، ودوَّى صوته في أجواء العالم المُختلِفة؛ لذا لا ينبغي أن نقرأ تاريخنا بحياء أو خجل، بل يجب أن نقرأ تاريخنا، ونستمدّ منه قوة نضيفها إلى قوتنا، وثروة دبلوماسيَّة نضمُّها، ونضيفها إلى ثرواتنا الأخرى.

الجعفريّ: ينبغي أن لا نكتفي بأن نملك قدرات، وقابليّات من دون أن نـُفجِّرها، ونصدح بها في أروقة العالم: الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربيّة، ومنظمة التعاون الإسلاميِّ، وفي كلِّ مناطق العالم؛ لذا ما من رسالة إلا وفيها خطاب، وإلى جانب الخطاب خطيب، ولا دولة بلا خطاب، وخطيب، ولا أمّة بلا خطاب وخطيب، ولا ثورة بلا خطاب وخطيب. رُبَّما ينفصم أحياناً الخطيب عن الخطاب، ورُبَّما يزدوج الشخصيّة، وقد يقول شيئاً، ويعمل شيئاً آخر.

الجعفريّ: شخصيّة الدبلوماسيّة امرأة كانت أو رجل يجب أن يتفاعل مع مَهمَّته، ويُبحِر في هذه سفينة الأداء الدبلوماسيِّ شراعها الأمانة، وقوة الخطاب، والصدق فيما يقول، والإيمان بمبادئه؛ حتى يستطيع أن يصل إلى الشاطئ الآخر.

الجعفريّ: على الدبلوماسيّ أن يُجيد فنَّ حلِّ المشاكل الدبلوماسيّة؛ لأنها ليست عسكرية، وإنما هي فنّ، وأداء، وحلول المشاكل، وطرح الحلول المختلفة حلاً بعد آخر إلى أن تـُرسي كلَّ مُشكِلة على شاطئ الحلّ، ويُصِرُّ على أن يمضي في هذا الطريق؛ لذا هي موهبة، وقابلية.

الجعفريّ: أنتم تخرَّجتم من المعهد، لكن لا يشتبهنَّ أحد، أو إحداكنَّ أنه مُجرَّد أخذ شهادة التخرُّج أصبح دبلوماسيّاً. الدبلوماسيّة فنٌّ، ومُمارَسة، ونمطيّة سلوك، وموهبة.. لا تشتبه أنك بمُجرَّد أخذك الشهادة أصبحت القِمَّة، بل يجب أن نتواضع، وكلما تواضع المتلقي أخذ أكثر فأكثر من العطاء الذي من حوله.

الجعفريّ: على الدبلوماسيِّ أن يُبرم علاقته مع الكلمة؛ الكلمة الطيِّبة وحدة البناء الثقافيِّ عندما تـُعمِّر عقلك، وقلبك بالكلمة المُؤمِن بها، وتصدح بها بلا جبن، وخوف، وسمسرة، أي: لا تبيعها، وتستعدّ أن تـُقدِّم كلَّ شيء من أجلها ستجد قلوب المتلقين مُتفتـِّحة لك، وتستلم لك، ولا تستغرب أن تجد العقول المَحشوَّة بالحساسيات تـُصفـِّق لك بكلِّ حرارة وأنت تخطب بعكس ما يُريدون، وتبلغهم بمواقف سياسيّة، وتحليلات سياسيّة تختلف معهم، وتتقاطع 180 درجة، ويُصفـِّقون لك؛ لأن ليس من السهل أن تختطف القلب.

الجعفريّ: الدبلوماسيّ عندما يشرع تفاعله مع الاخرين ينبغي أن ينفتح على قلوبهم من خلال قلبه، وعندما يُريد أن يصل إلى أعماق قلوبهم ليس له إلا أن يبدأ من عمق قلبه.. بقدر ما تكون عميقاً بقلبك حين تنطلق ستكون عميقاً في قلوب الآخرين عندما يتلقون الكلام منك.

الجعفريّ: الدبلوماسيّة التي تـُطرَح اليوم في العالم مُشوَّهة، وزيف، وكذب.. السياسة عندهم تعني الكذب: اكذب اكذب اكذب حتى يُصدِّقك الآخرون. هذه نظرية غوبلكس حسَّنها البعض في القرن العشرين، أحد الأشخاص ذكرها أمامي بطريقة مُغلفة، ولم أكتمه سِرّاً رفضت هذا المنطق حين قال: ادَّعِ ادَّعِ ادَّعِ حتى يُصدِّقك الآخر. فقلت له أنها كلمة مُحسَّنة لنظرية غوبلكس.

الجعفريّ: الدبلوماسيّ لا يجد نفسه في أزمة نظريّات، ومفاهيم إذا عزم على أن يبقى صادقاً، ويتمسَّك بقوة بحقوق شعبه، وبلده، وينفتح على الإنسانية، ويعي المُشترَك الإنسانيَّ الذي يجعل حركة العراق جزءاً من حركته في العالم كلـِّه.

الجعفريّ: يجب أن نتصالح في داخلنا مع أمَّتنا، ومع شعبنا؛ عند ذلك يصلح أن نتصالح مع الناس؛ ليعرف هؤلاء الناس أنهم على موعد مع العراق الذي مرَّت به ظروف صعبة، واستثنائيّة، ومسكته الدكتاتوريّة فترة طويلة من الزمن 35 سنة مع ذلك بقي العراق قوياً، وبقي رحم العراق معطاءً، وأنجب أجيالاً رائعة.

الجعفريّ: لا نزعم أن مُجتمَعنا مُجتمَع عباقرة، عندنا نقاط ضعف، ونقاط ضعف ليست قليلة، لكنَّ عُمُوم مسيرة الشعب العراقيِّ مسيرة مُتعافية فيها عناصر قوة، ونحن نخضع لعلم الاجتماع السياسيِّ شأننا شأن شُعُوب العالم، فينا قوة، وفينا ضعف.

الجعفريّ: المُعوَّل على الجيل الصاعد أن ينهض بمَهمَّته، ويضع في حسابه أنَّ الذي جعلكم تنخرطون في هذا المعهد هو المقاسات الدبلوماسيّة من حيث البدء، وينبغي أن تستمروا من حيث الارتقاء.

الجعفريّ: ليس أمامكم إلا طريق واحد، والذي يُريد أن يكون دبلوماسيّاً شريفاً أميناً لا يُباع بعملة، ولا يُباع بنزوة، ولا يستطيع أن يفترسه أحد.. عليه أن يبقى دبلوماسيّاً بكلِّ معنى الكلمة، ويفهم الدبلوماسيّة ثقافة، وكلمة، والتزاماً.

الجعفريّ: الكلمة بلا التزام لا تعني شيئاً، ولا تنظروا إلى الآخرين من أقرب المُقرَّبين لكم، ولا البعيدين عنكم.. لا تنظروا إليهم إلا من خلال القرب الثقافيِّ.

الجعفريّ: الواعي الذي يعرف ما الذي يجمعه مع الناس، وصاحب الإرادة القويّة يُصِرُّ على أن يُركـِّز على نقاط الاتفاق بينه وبين الآخرين؛ حتى ينظر إلى الناس بعين الحُبِّ عندما يخرج إلى الشارع، ولا ينظر إلى الناس من زاوية الخلافات، وتستبد به عُقدة الخلاف مع الآخرين.

الجعفريّ: عندما نتحلى بعقلـيّة المُشترَك بيننا وبين الناس سنجد كلَّ واحد مهما كان بعيداً عنا يجذبنا له.. نقاط الاتفاق ما أكثرها، وليس ضعفاً أن نختلف معه، بل قوة، ونقول له بملء أفواهنا: إننا نختلف معك، وعندما نتفق معه نقول له من عمق قلبنا: نتفق معك. فنتحدَّث بصدق، ونسلك بمصداقـيَّة.

الجعفريّ: عالم اليوم ينتظر دبلوماسيّة ليست كهذه الدبلوماسيّات العفنة التي أكثرها كذب، وافتراء، وشغب.. نادراً ما نجد دبلوماسيّة تصدق، نعم.. تـُوجَد دبلوماسية صادقة، لكنها -للأسف الشديد- ليس بالمُستوى الذي نطمح له.. أصبحت اليوم مع الأسف كلمة هذا سياسيّ، وهذا جواب دبلوماسيّ يعني كاذب.

الجعفريّ: كلمة الدبلوماسيّة يجب أن نـُعيد إليها قيمتها، ومعناها. ليس فقط من خلال التنظير، بل من خلال التطبيق، والتطبيق يجب أن ينبض بالمصاديق.

الجعفريّ: عندما تنفتحون على كلِّ نظريَّة العمل السياسيِّ، وعلى كلِّ تجربة، وعلى كلِّ بلد ستجدون أنَّ كلَّ شيء من حولكم يتحوَّل إلى مُعطٍ بشرط أن تـُحسِنوا عمليّة التلقي.. من يُرِد أن يكون مُتلقياً سيجد كلَّ شيء من حوله مُعطياً بشرط أن تتلقوه.

الجعفريّ: لا قيمة للدبلوماسيّة بلا أخلاقـيّة.

الجعفريّ: الحروب بدأت بقرارات سياسيّة. حرب أُشعِلت 116 سنة في القرن الخامس عشر بين فرنسا وبريطانيا، وحرب الـ30 عاماً، والحرب العالميّة الأولى، والحرب العالميّة الثانية كلها؛ بسبب سياسات فاشلة، سياسات أشعلت فتناً، وسياسات خمَّدت فتناً، وجعلت الآمال تشرق من جديد في عالم الإنسان.

الجعفريّ: أتمنى أن تنطلقوا، ولا تنظروا إلى العراق بمساحته، ولا سكانه، بل انظروا إلى العراق عمقه الحضاريِّ، وحجمه التاريخيّ، ولستُ أدفعكم -لا سمح الله- إلى جادّة الغرور، ولكنني أدفعكم باتجاه الثقة بتاريخ العراق.. بشهداء العراق.. بقِيَم العراق.. بالإصرار على بناء العراق، والمُضيِّ بالعراق في الطريق الصاعد؛ لذلك فالآمال معقودة عليكم أن تحملوا لواء الدبلوماسيّة كأحسن ما يكون.

الجعفريّ: الدبلوماسيّة من أقرب المَهمَّات التي نهض بها الأنبياء.

الجعفريّ: الدبلوماسيّ ذهنه متفتح دائماً بخيارات مُتعدِّدة، والخيار الوحيد الذي يستبعده هو الحرب. لا تـُوجَد مُشكِلة عصيَّة على الدبلوماسيّة إذا عزم الدبلوماسيُّ على الحلول ولا عالم بلا مشاكل، ولا مشاكل بلا حلّ دبلوماسيّ؛ بشرط أن يصدق مُهندِسو العملـيّة الدبلوماسيّة فيما يقولون.

الجعفريّ: أتمنى لكم كلَّ الموفقيّة، وآمل أنَّ تزداد نسبتكم في المستقبل، وأن تزداد نسبة النساء أكثر. الآن 39 سيدة من مجموع 137 إلى أن نصل إلى ذلك الوقت الذي تكون فيه نسبة المرأة في المُؤسَّسة هي ذات النسبة التي تكون في المُجتمَع مثلما تكون المرأة في المُجتمَع نصفه يجب أن تكون في المُؤسَّسة كذلك ضمن المقاسات الصحيحة.

الجعفريّ: نريد امرأة تـُساهِم في الدبلوماسيّة، وفي الطبِّ، وفي الهندسة، وفي التعليم، وفي كلِّ مكان.

 

وإلى حضراتكم النص الكامل لكلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة بمناسبة تخرَّج الدورة 27 الدبلوماسيّة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قال الله -تبارك وتعالى- في محكم كتابه العزيز:

بسم الله الرحمن الرحيم

({أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)   [إبراهيم : 24-25]

ما كان لهذه الثمار اليانعة أن تشقَّ طريقها في آفاق الإنتاج لولا تضافر جهود ليست قليلة. رُبَّما يكون بعضها واضحاً تحت الضوء، وقد تكون الجهود الأكبر التي لم نلمسها، ولم نرَها، ولكننا تلمَّسنا آثارها، وتابعنا نتائجها، وهكذا عادة ما يكون الجنود المجهولون الذين يصنعون المُعجزات في كلِّ حقل من الحقول قد لا يكونون معروفين لدينا، لكنهم معروفون في ضمائرهم، وفي وجدان أمّتهم، وشعبهم خُصُوصاً في الظروف الصعبة.

نحن نتطلع منذ زمن أن نرى دبلوماسيّة عراقيّة تضاهي دبلوماسيّات العالم، بل تتفوَّق عليها؛ ليس من عُقدة التميُّز، ولكن من حقيقة أنَّ العراق يمتلك مُقوِّمات التفوُّق في هذا المجال. فينبغي أن يأخذ حِصَّته بفرض نفسه في أروقة العالم.

العراق كمنابع مُتعدِّدة توافرت له فرص لم تتأتَّ لكلِّ دول العالم. هذا ينبغي أن نعرفه ليس من عُقدة التميُّز على الآخرين وإنـَّما هذه حقيقة أنَّ العراق يمتلك مُقوِّماً حضاريّاً عريقاً يمتدّ آلاف السنين:  ستة آلاف سنة تحديداً، ويمتلك المسلة القانونيّة الأولى، ويمتلك الكثير مُقوِّماً حضاريّاً يمكن أن يكون جسراً رابطاً بين أمم العالم.

العراق ليس البلد الأكبر، لكنه البلد الأكثر تنوُّعاً في الكثير من المُكوِّنات: التنوُّع الدينيّ، والمذهبيّ، والقبليّ، والقوميّ، والسياسيّ. هنا تلتقي كلها في العراق مثلما يلتقي نهرا دجلة والفرات؛ لذا نحن نأمل من أبنائنا وبناتنا أن ينهضوا بمَهمَّة الدبلوماسيّة، وأن يُعرِّفوا بها العالم يوم كان العالم سادراً في سُبات عميق كانت أجراس الحضارة تدقّ هنا في العراق. ما كان عندهم حضارة، ولم يعرفوا الحضارة كان العراق مَن حَمَلَ شعار الحضارة، ودوَّى صوته في أجواء العالم المُختلِفة؛ لذا لا ينبغي أن نقرأ تاريخنا بحياء أو خجل، بل يجب أن نقرأ تاريخنا، ونستمدّ منه قوة نضيفها إلى قوتنا، وثروة دبلوماسيَّة نضمُّها، ونضيفها إلى ثرواتنا الأخرى.

ليس المجال الدبلوماسيّ، والسياسيّ هو المائز الوحيد في العراق وإنما الجانب التاريخيّ، والجانب الزراعيّ، والموقع الستراتيجيّ، والثروات المعنويّة التي تمدّ العراقـيِّين خُصُوصاً في الظروف الصعبة، وتجعلهم يأبون أن يكونوا في خط المُواجَهة الأوَّل في التحدِّيات.

كـُتِب للعراق أن يكون كذلك، ومادام للعراق هذا القدر الذي قدَّره الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن لا نكتفي بأن نملك قدرات، وقابليّات من دون أن نـُفجِّرها، ونصدح بها في أروقة العالم: الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربيّة، ومنظمة التعاون الإسلاميِّ، وفي كلِّ مناطق العالم؛ لذا ما من رسالة إلا وفيها خطاب، وإلى جانب الخطاب خطيب، ولا دولة بلا خطاب، وخطيب، ولا أمّة بلا خطاب وخطيب، ولا ثورة بلا خطاب وخطيب. رُبَّما ينفصم أحياناً الخطيب عن الخطاب، ورُبَّما يزدوج الشخصيّة، وقد يقول شيئاً، ويعمل شيئاً آخر.

بعض أشهر خطباء العالم وقعوا في هذه المُفارَقة كخطيب الثورة الفرنسية ميرابو عندما دوَّى بصوته، ثم كشفت الوثائق فيما بعد أنه كان خائناً، لكنَّ شخصيّة الدبلوماسيّة امرأة كانت أو رجل يجب أن يتفاعل مع مَهمَّته، ويُبحِر في هذه سفينة الأداء الدبلوماسيِّ شراعها الأمانة، وقوة الخطاب، والصدق فيما يقول، والإيمان بمبادئه؛ حتى يستطيع أن يصل إلى الشاطئ الآخر، ويُجيد فنَّ حلِّ المشاكل الدبلوماسيّة؛ لأنها ليست عسكرية، وإنما هي فنّ، وأداء، وحلول المشاكل، وطرح الحلول المختلفة حلاً بعد آخر إلى أن تـُرسي كلَّ مُشكِلة على شاطئ الحلّ، ويُصِرُّ على أن يمضي في هذا الطريق؛ لذا هي موهبة، وقابلية.

أنتم تخرَّجتم من المعهد، لكن لا يشتبهنَّ أحد، أو إحداكنَّ أنه مُجرَّد أخذ شهادة التخرُّج أصبح دبلوماسيّاً. الدبلوماسيّة فنٌّ، ومُمارَسة، ونمطيّة سلوك، وموهبة.

المعهد يُعطيك اللبنات الأولى، وبواكير الأفكار، أمَّا أن تكون خطيباً مُتحدِّثاً مُحاوراً جيِّداً صُلباً هذه تتفتق من داخلك، ولا يُضيف المعهد لكم إلا جزءاً بسيطاً. الآن أنتم على وشك أن تبدأوا مسيرة الدبلوماسيّة.. هذا أقوله في الدبلوماسيّة، وأقوله في الطبِّ، وأقوله في كلِّ الاختصاصات الأكاديميّة التي تـُؤهِّلك لأن تبدأ، ولا تشتبه أنك بمُجرَّد أخذك الشهادة أصبحت القِمَّة، بل يجب أن نتواضع، وكلما تواضع المتلقي أخذ أكثر فأكثر من العطاء الذي من حوله.

عالم اليوم عالم فرص، وهنا يبدأ الدبلوماسيّ فرصته، ويُشمِّر عن ساعد الجد، ويستطيع أن يحمل اسم بلده في كلِّ بلد يمرُّ فيه، وفي كلِّ رواق يخطب فيه، ويُبرهِن للعالم أنَّ ما يجهله العالم يجب أن يُعطيه بثقة، وليس بغرور. العالم لا يعرفون عن العراق كما تعرفون أنتم. البعض منهم يقرأون عن العراق من دون أن يعيش مرحلة النضوب الثقافيِّ؛ لذا -للأسف الشديد- كثير من الأشياء المرتبطة بالعراق لا يعرفها الناس إلا القليل. هذا واجبنا؛ لذا كان على الدبلوماسيِّ أن يُبرم علاقته مع الكلمة؛ لذا استهليت الحديث وأنا افكر بأيِّ آية أبدأ: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ))  [إبراهيم : 24]

الكلمة الطيِّبة وحدة البناء الثقافيِّ عندما تـُعمِّر عقلك، وقلبك بالكلمة المُؤمِن بها، وتصدح بها بلا جبن، وخوف، وسمسرة، أي: لا تبيعها، وتستعدّ أن تـُقدِّم كلَّ شيء من أجلها ستجد قلوب المتلقين مُتفتـِّحة لك، وتستلم لك، ولا تستغرب أن تجد العقول المَحشوَّة بالحساسيات تـُصفـِّق لك بكلِّ حرارة وأنت تخطب بعكس ما يُريدون، وتبلغهم بمواقف سياسيّة، وتحليلات سياسيّة تختلف معهم، وتتقاطع 180 درجة، ويُصفـِّقون لك؛ لأن ليس من السهل أن تختطف القلب.

الدبلوماسيّ عندما يشرع تفاعله مع الاخرين ينبغي أن ينفتح على قلوبهم من خلال قلبه، وعندما يُريد أن يصل إلى أعماق قلوبهم ليس له إلا أن يبدأ من عمق قلبه.

بقدر ما تكون عميقاً بقلبك حين تنطلق ستكون عميقاً في قلوب الآخرين عندما يتلقون الكلام منك.

الدبلوماسيّة التي تـُطرَح اليوم في العالم مُشوَّهة، وزيف، وكذب.. السياسة عندهم تعني الكذب: اكذب اكذب اكذب حتى يُصدِّقك الآخرون. هذه نظرية غوبلكس حسَّنها البعض في القرن العشرين، أحد الأشخاص ذكرها أمامي بطريقة مُغلفة، ولم أكتمه سِرّاً رفضت هذا المنطق حين قال: ادَّعِ ادَّعِ ادَّعِ حتى يُصدِّقك الآخر. فكلمة مُحسَّنة لنظرية غوبلكس.

الدبلوماسيّ لا يجد نفسه في أزمة نظريّات، ومفاهيم إذا عزم على أن يبقى صادقاً، ويتمسَّك بقوة بحقوق شعبه، وبلده، وينفتح على الإنسانية، ويعي المُشترَك الإنسانيَّ الذي يجعل حركة العراق جزءاً من حركته في العالم كلـِّه.

ما القارّات الخمس، أو الست مع القارة المفقودة؟ هل يُوجَد فرق بين إنسان وإنسان، وبين امرأة وامرأة في كلِّ قارَّة، وبين طفل وطفل على مُستوى الأفعال، وعلى مُستوى المصالح، وعلى مُستوى رُدُود الأفعال، وعلى مُستوى الحروب، والضحايا.

الإنسان الذي يرمز إلى تنوُّع الإنسانيّة، فيجب أن نتصالح في داخلنا مع أمَّتنا، ومع شعبنا؛ عند ذلك يصلح أن نتصالح مع الناس؛ ليعرف هؤلاء الناس أنهم على موعد مع العراق الذي مرَّت به ظروف صعبة، واستثنائيّة، ومسكته الدكتاتوريّة فترة طويلة من الزمن 35 سنة مع ذلك بقي العراق قوياً، وبقي رحم العراق معطاءً، وأنجب أجيالاً رائعة.

لا نزعم أن مُجتمَعنا مُجتمَع عباقرة، عندنا نقاط ضعف، ونقاط ضعف ليست قليلة، لكنَّ عُمُوم مسيرة الشعب العراقيِّ مسيرة مُتعافية فيها عناصر قوة، ونحن نخضع لعلم الاجتماع السياسيِّ شأننا شأن شُعُوب العالم، فينا قوة، وفينا ضعف.

المُعوَّل على الجيل الصاعد أن ينهض بمَهمَّته، ويضع في حسابه أنَّ الذي جعلكم تنخرطون في هذا المعهد هو المقاسات الدبلوماسيّة من حيث البدء، وينبغي أن تستمروا من حيث الارتقاء.

ليس أمامكم إلا طريق واحد، والذي يُريد أن يكون دبلوماسيّاً شريفاً أميناً لا يُباع بعملة، ولا يُباع بنزوة، ولا يستطيع أن يفترسه أحد.

عليه أن يبقى دبلوماسيّاً بكلِّ معنى الكلمة، ويفهم الدبلوماسيّة ثقافة، وكلمة، والتزاماً.

الكلمة بلا التزام لا تعني شيئاً، ولا تنظروا إلى الآخرين من أقرب المُقرَّبين لكم، ولا البعيدين عنكم.. لا تنظروا إليهم إلا من خلال القرب الثقافيِّ.

اعقدوا العزم من الآن أن تقرأوا، ثم تقرأوا، وليس بديلاً عن القراءة شيء.. ليس اعتباطاً أنَّ الله -تبارك وتعالى- يفتتح خطابه الحامي مع رسوله الحبيب: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))     [العلق : 1]

اقرأوا من تريدون أن تقابلوه، أو من يُريد أن يزوركم.. ما همومه، ما المُشترَك بيننا وبينه، وليس بالضرورة أن نقرأ حتى نتحدَّث؛ حتى لا تحدث عندنا عُقدة الثرثرة، ولكن عندما تقرأ ستجد العالم ليس في ظلام، بل عالم مُنير بالقراءة، وعقد العلاقة مع الكتاب هو برم العلاقة مع كلِّ دول العالم؛ فتفهم ماذا تريد منا، وما الذي يربطنا بدول العالم المختلفة.

ستجدون أنَّ المساحة الواسعة من الاختلاف لا ينبغي أن تـُعمي أبصارنا، وتصمَّ آذاننا عن أنه تـُوجَد مُشترَكات بيننا وبين الآخرين.

الواعي الذي يعرف ما الذي يجمعه مع الناس، وصاحب الإرادة القويّة يُصِرُّ على أن يُركـِّز على نقاط الاتفاق بينه وبين الآخرين؛ حتى ينظر إلى الناس بعين الحُبِّ عندما يخرج إلى الشارع، ولا ينظر إلى الناس من زاوية الخلافات، وتستبد به عُقدة الخلاف مع الآخرين.

عندما نتحلى بعقلـيّة المُشترَك بيننا وبين الناس سنجد كلَّ واحد مهما كان بعيداً عنا يجذبنا له.. نقاط الاتفاق ما أكثرها، وليس ضعفاً أن نختلف معه، بل قوة، ونقول له بملء أفواهنا: إننا نختلف معك، وعندما نتفق معه نقول له من عمق قلبنا: نتفق معك. فنتحدَّث بصدق، ونسلك بمصداقـيَّة.

عالم اليوم ينتظر دبلوماسيّة ليست هذه الدبلوماسيّات العفنة التي أكثرها كذب، وافتراء، وشغب.. نادراً ما نجد دبلوماسيّة تصدق، نعم.. تـُوجَد دبلوماسية صادقة، لكنها -للأسف الشديد- ليس بالمُستوى الذي نطمح له.

أصبحت كلمة هذا سياسيّ، وهذا جواب دبلوماسيّ يعني كاذب.

كلمة الدبلوماسيّة يجب أن نـُعيد إليها قيمتها، ومعناها. ليس فقط من خلال التنظير، بل من خلال التطبيق، والتطبيق يجب أن ينبض بالمصاديق.

عندما تنفتحون على كلِّ نظريَّة العمل السياسيِّ، وعلى كلِّ تجربة، وعلى كلِّ بلد ستجدون أنَّ كلَّ شيء من حولكم يتحوَّل إلى مُعطٍ بشرط أن تـُحسِنوا عمليّة التلقي.

من يُرِد أن يكون مُتلقياً سيجد كلَّ شيء من حوله مُعطياً بشرط أن تتلقوه.

انظر الجمال القرآنيَّ: ((أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا))   [الرعد: 17]

هذه الوديان مُتفاوتة بالحجم، ويشتبه مَن يعتقد أنَّ الوادي الكبير فيه ماء كثير، أي: الماء الذي نزل من السماء هنا كان كثيراً، وهنا كان قليلاً، أي ما أنزل مطر السماء متفاوتاً بل السماء تـُعطي الماء على حد سواء، لكنَّ الحفر التي في الأرض حفرة الكبيرة تأخذ ماءً كثيراً، والحفرة الصغيرة تأخذ ماءً قليلاً. الأرض المُحدَّبة لا تأخذ. نحن لا نتهم السماء بالعطاء، بل نتخذ أنفسنا بالتلقي عندما نـُصِرَّ على أن نأخذ نجد كلَّ شيء من حولنا مُعطياً.

لا قيمة للدبلوماسيّة بلا أخلاقـيّة.

الحروب بدأت بقرارات سياسيّة. حرب أُشعِلت 116 سنة في القرن الخامس عشر بين فرنسا وبريطانيا، وحرب الـ30 عاماً، والحرب العالميّة الأولى، والحرب العالميّة الثانية كلها؛ بسبب سياسات فاشلة، سياسات أشعلت فتناً، وسياسات خمَّدت فتناً، وجعلت الآمال تشرق من جديد في عالم الإنسان.

أتمنى أن تنطلقوا، ولا تنظروا إلى العراق بمساحته، ولا سكانه، بل انظروا إلى العراق عمقه الحضاريِّ، وحجمه التاريخيّ، ولستُ أدفعكم -لا سمح الله- إلى جادّة الغرور، ولكنني أدفعكم باتجاه الثقة بتاريخ العراق.. بشهداء العراق.. بقِيَم العراق.. بالإصرار على بناء العراق، والمُضيِّ بالعراق في الطريق الصاعد؛ لذلك فالآمال معقودة عليكم أن تحملوا لواء الدبلوماسيّة كأحسن ما يكون.

هذه الدبلوماسيّة من أقرب المَهمَّات التي نهض بها الأنبياء:

((اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُوْلَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) [طه : 43]

الدبلوماسيّ ذهنه مأنوس دائماً بخيارات مُتعدِّدة، والخيار الوحيد الذي يستبعده هو الحرب. لا تـُوجَد مُشكِلة عصيَّة على الدبلوماسيّة إذا عزم الدبلوماسيُّ على الحلول ولا عالم بلا مشاكل، ولا مشاكل بلا حلّ دبلوماسيّ؛ بشرط أن يصدق مُهندِسو العملـيّة الدبلوماسيّة فيما يقولون.

أتمنى لكم كلَّ الموفقيّة، وآمل أنَّ تزداد نسبتكم في المستقبل، وأن تزداد نسبة النساء أكثر. الآن 39 سيدة من مجموع 137 إلى أن نصل إلى ذلك الوقت الذي تكون فيه نسبة المرأة في المُؤسَّسة هي ذات النسبة التي تكون في المُجتمَع مثلما تكون المرأة في المُجتمَع نصفه يجب أن تكون في المُؤسَّسة كذلك ضمن المقاسات الصحيحة.

نريد امرأة تـُساهِم في الدبلوماسيّة، وفي الطبِّ، وفي الهندسة، وفي التعليم، وفي كلِّ مكان.

أتمنى لكم كلَّ الموفقيّة على أمل اللقاء بكم -إن شاء الله تعالى- وأنتم تحملون اسم العراق، ولواء العراق عالياً في أروقة العالم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


العودة إلى صفحة الأخبار


 الرئيسية  |  الأخبار  |  إبراهيم الجعفري  |  تيار الإصلاح الوطني  |  رسائل الأيام  |  كلمات  |  الصور  |  المكتبة  |  الفيديو  |  اتصل بنا 
E-mail : med@al-jaffaary.net
جميع الحقوق محفوظة لـموقع الدكتور ابراهيم الجعفري©2010 - 2024
استضافة وتصميم وبرمجة ويب اكاديمي

Powered by web academy