|
كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة في الأكاديميّة الدبلوماسيّة الروسية في موسكو
الاخبار | 21-03-2015
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أحيِّيكم تحيّة طيِّبة.. في أوَّل زيارة لي إلى موسكو عاصمة جمهوريّة روسيا التي طالما قرأنا عنها في التاريخ، وكيف كانت على طول التاريخ عاصمة لدولة فاعلة في مُختلِف المراحل سواء كانت في المرحلة القيصريّة، أم البلشفيّة، أم روسيا الحاليّة. من لم يرَ روسيا قد قرأ عنها بكلِّ تأكيد؛ لأنـَّها كانت حاضرة في التاريخ مثلما هي حاضرة اليوم في واقعنا المُعاصِر. رُبَّما استهوى اليوم الشرق، والشرق الأوسط أنظار العالم من أقصاه إلى أقصاه؛ باعتباره مهد الحضارات، وباعتباره منبع الثروات المُتعدِّدة، واليوم -للأسف الشديد- تتقاطع فيه إرادات الشرِّ، فتحاول أن تـُحوِّل عناصر قوّته إلى عناصر ضعف. في عالم الشرق تتجمَّع الثروة النفطيّة فثلثا احتياطيِّ نِفط العالم في منطقتنا في الشرق الأوسط، وفي الشرق الأوسط البلدان التي تـُشكـِّل العالم الإسلاميَّ، ومنها العالم العربيّ، وأكثر من 50 بلداً، والحجم الديمغرافيّ لهذه الأمّة يتجاوز المليار ونصف المليار، وهي تحتلُّ قلب العالم من حيث إنها تـُشكـِّل همزة الوصل بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، كما أنَّ العراق بالذات احتلَّ موقعاً مُتقدِّماً. ليس سِرّاً على أحد أنَّ العراق منذ فترة طويلة في التاريخ كان يتربَّع على عرش العالم من الناحية الحضاريّة، ومنذ الألف الرابع قبل ميلاد السيِّد المسيح كان قد بزغ فجر العراق في سماء التاريخ، ولم ينقطع عن التاريخ، بل ظلَّ يتكرَّر في كلِّ مرحلة كأنه على موعد مع البشريّة كلَّ بضعة قرون ينبع شيء جديد في تاريخ الإنسانيّة، ويستمدُّ حضارته من العراق، فقد طالعنا حمورابي في مسلته المعروفة 1792 إلى 1750 قبل ميلاد السيِّد المسيح قرابة 4000 سنة سجّلت مسلة حمورابي سبقاً حضاريّاً وتاريخيّاً إذ كتبت فيها أوّل مرة لائحة حقوق الإنسان، ولائحة الدفاع عن حقوق المرأة، ولائحة توزيع المياه، والثروة المائيّة بطريقة قانونيّة، وسجَّلت سبقاً كذلك لأنها كتبت أوَّل دستور، وأوَّل قانون جزائيٍّ في تاريخ البشريّة. كلُّ هذه كانت في العراق، وأتذكـَّر كلمة لسرجون الأكدي 2230 سنة قبل ميلاد السيِّد المسيح، أي: قبل أربعة آلاف ومائتين وخمس وأربعين سنة عندما أشار إلى بغداد، ولم يكن اسمها بغداد، وقال: (مَن يحكم قبّة العالم يتحكـَّم برياحها الأربعة). موقع العراق، وموقع بغداد يتربَّع على عرش الحضارة؛ لذا انبعثت موجات الفكر، والثقافة، ولطالما احتضنت بغداد المُفكـِّرين، والشعراء، والفلاسفة، والأدباء، وتحرَّكوا من هناك، ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الشرق الأوسط، أو العراق قد احتكروا العلم، والمعرفة. العلم مُعولـَم فمنذ فجر التاريخ بزغ خمسة من نجوم الحكماء، والفلاسفة، والمُصلِحين قبل ميلاد السيِّد المسيح 600 إلى 84 سنة قبل ميلاد المسيح (أشعيا، وزرادشت، وبوذا، وكونفوشيوس، وفيثاغور) بزغ هؤلاء خلال مُدّة 120 سنة من سنة 600 إلى سنة 480 قبل الميلاد، كانوا مُعولـَمين. رُبّما لم يلتقِ أحدهم بالآخر، لكنهم اتفقوا على إنسانيّة الثقافة، وإصلاح المُجتمَع، نعم.. مات كونفوشيوس، ومات فيثاغور، وكلُّ هؤلاء ماتوا، ولا يُوجَد عظيم لا يموت، ولكنَّ أفكارهم بقيَت تتفاعل، كما نحن اليوم في الشرق نشعر أنَّ الرسول مُحمَّداً -صلى الله عليه وآله وسلم- انتقل إلى جوار ربِّه لكنه خلـَّف أمّة تمتدُّ إلى أكثر من مليار ونصف. هكذا تكون الأفكار، ومَن يحمل الأفكار، وهكذا تتوالى الأفكار في مُرُور الزمن، وتنتشر، وتمتدُّ. الثقافة ليست حكراً على أحد، والحكمة ليست حكراً على أحد، وطبيعة الثقافة أنها مُؤنسَنة؛ لأنها انطلقت من الإنسان، وجاءت لخدمة الإنسان، وتسعى لإسعاد الإنسان، وتتغلب على كلِّ المشاكل، وتـُحوِّل الثروة المخزونة في هذا الوجود أرضيّةً كانت، أم بحريّة، أم سماويّة من أجل تحويلها لخدمة الإنسان. هذه المنطقة عوَّدت العالم أنها مصدر إشعاع للقِيَم والحضارة يُريد البعض أن يُحوِّلها إلى منطقة لتقاطع إرادات الشرّ، ويُحاولوا أن يُشوِّهوا سُمعة هذه المنطقة، ويُحوِّلوا هذه الثروات إلى نقمة بحيث يقتتل أبناء البلدان مع بعضهم، أو أبناء البلد الواحد. إنها موجة الإرهاب الشِرّيرة التي تـُعادي الإنسان، وتعمل على قتل الإنسان، وتعمل على شقائه، وتحاول أن تنتشر المُجتمَعات ذات التكوين الثنائيِّ. عندما تكون المُجتمَعات ثنائيّة التكوين تأتي نزعات الإرهاب لتـُحوِّلها من ثنائيّات تكامُل إلى تقاتـُل، وهذه تتدوَّر عبر التاريخ. لسنا البلد الأوَّل في التاريخ، وقد لا نكون البلد الأخير في التاريخ، فالحرب الألمانيّة-الألمانيّة في القرن السابع عشر عندما اقتتل الألمان مع بعضهم من 1618 إلى 1648 بين الكاثوليك والبروتستانت بين الشمال والجنوب الألمانيّين، وسرعان ما انتشرت هذه الحرب الداخليّة إلى حرب بين الدول الإسكندنافيّة: (الدانمارك، والسويد)، وانتشرت إلى مناطق أخرى. هكذا تنتشر الحُرُوب عندما تسبقها ثقافة التقاطع، والتناحُر، والتنابُذ، وتـُؤدِّي بأبناء الشُعُوب الواحدة إلى حالة من الاقتتال، وبعض الدول لسبب أو لآخر تعمل على ترويج ثقافة الاحتراب والثقافة الطائفيّة بين كلِّ مُكوِّن في المُجتمَع على خلفيّة دينيّة، أو مذهبيّة، أو قوميّة، أو سياسيّة فيما هي مُتكامِلة، وجمالها في تكامُلها. تـُجّار الحُرُوب يعملون، ويبذلون الجهد ما استطاعوا من أجل أن يُحوِّلوا هذا التكامُل إلى حالة من التناكد، والتناقص، والاحتراب فيما بينها، وقد كان للعراق حِصّة منها. العراق بلد مُتعدِّد التكوين -هو ليس أكبر بلد في العالم، لكنه من أكبر البلدان في العالم- يحتوي على تنوُّع في مُكوِّناته حيث تتعدَّد الأديان، وتتعدَّد المذاهب، والقوميّات، والقبائل، والاتجاهات السياسيّة، فحين نتحدَّث عن العراق نتحدَّث عن البلد الذي شاء القدر أن تجتمع فيه مُكوِّنات مُتعدِّدة، والعالم بهامته ليس فقط من تاريخ العراق، بل من ثروات العراق، ومن مُكوِّنات الشعب العراقيّ، والعراق يقطع أشواطاً طويلة على طريق التكامُل في عالم تزدحم فيه الحُرُوب والنعرات، ويُحاوِل البعض أن يقف في طريق عجلة العراق وهي تمشي إلى الأمام منذ أن سقط نظام صدّام المقبور، وديكتاتوريّته المقيتة إلا وبدأ الشعب العراقيّ يصنع مسيرة جديدة تحضر المُكوِّنات العراقيّة كلها في البرلمان باعتباره بيت الشعب، ما من شريحة اجتماعيّة في المُجتمَع إلا وترى لها حجماً وبصمة. في العراق الجديد يستحيل أن لا تجد لأيِّ مُكوِّن من المُكوِّنات العراقيّة مُمثـِّلاً له في البرلمان. كلُّ الديانات.. كلُّ المذاهب.. كلُّ القوميّات.. كلُّ الاتجاهات السياسيّة حتى إنَّ الثنائيّة التكوينيّة الجنسيّة بين الرجل والمرأة تزدان بشكل رائع في العراق. لا نقول إنه مثـَّل طموحنا إلى الآن لكنَّ -بكلِّ تأكيد- وجود 82 سيِّدة من عضوات البرلمان كنائبات يعني مَعلماً حضاريّاً، وسبقاً في العالم كلـِّه. هذا السبق يُسجِّله العراق اليوم مثلما سجَّلته مسلة حمورابي قبل أربعة آلاف سنة في التاريخ. الحكومة الثانية التي شكـَّلتها عام 2005 كان معي ست سيِّدات وزيرات عمِلـْنَ كأحسن ما يكون في تاريخ الحكومة؛ إذن العمليّة السياسيّة في العراق تتطوَّر، والعراق يتخطـَّى مرحلة إلى مرحلة جديدة، منذ عام 2003 وإلى اليوم سلسلة حكومات تبدَّلت: (حكومة مجلس الحكم، والحكومة المؤقتة، والحكومة الانتقاليّة، والحكومات الحالية) بطريقة سلميّة، وبمَحبّة، واحترام، بينما كانت سابقاً عندما تتبدَّل الحكومات تقترن بالاغتيالات، والسُجُون، وأحكام الإعدام، والتشريد، والمُطارَدة إلى الخارج. الحكومة في عراق اليوم تنتهي مُدّتها، وتـُسلـَّم للحكومة التي بعدها بطريقة سلميّة، وبطريقة حضاريّة. مثلما دخل العراق -أيضاً- التجربة الفيدرالية بأنَّ مُجتمَعه مُتعدِّد التكوين فيه قوميّات: (العرب، والكرد، والتركمان) فمن الطبيعيِّ أن يُقِرَّ الدستور العراقيّ نظام الفيدرالية. الفيدرالية من كلمة فيدرل بالإغريقيّ تعني الثقة بالإنكليزيّ، أي: إنَّ المُجتمَع الذي يتألف من عِدّة مُكوِّنات تضعف فيه الثقة، فتأتي الفيدرالية لإعادة بناء الثقة، ومدِّ الجُسُور في مُجتمَع قد تتهدَّد عُرى الثقة فيه؛ بسبب الاختلافات. أميركا دولة فيدراليّة، وهي مُؤلـَّفة من 50 بلداً، و50 كونغرساً، و50 عَلماً، و50 رئيس ولاية، و50 دستوراً محليّاً. الفيدراليات تتكامل، وكلها تتحرَّك في إطار الديمقراطيّة، كذلك في بلدان الشرق هناك ولاية محليّة تنتظم كلها تحت حكومة مركزيّة. في العراق -أيضاً خُضنا تجربة الحكومة الفيدراليّة، ولم يمضِ على تجربة الحكم الجديد في العراق سوى عقد واحد، أو 11 سنة، ودخلنا في العام 12؛ إذن العراق يتخطـَّى تاريخ الديكتاتوريّة الذي عانى منه منذ سنة 1968 إلى 2003، واليوم يصنع حاضراً جديداً، ويرنو، ويتطلع لبناء مُستقبَل جديد. التجربة الجديدة عام 2015 بدأ العراق بدبلوماسيّة جديدة هي الانفتاح على دول العالم من دون أن يختنق بمنطقة الشرق الأوسط، أو يختنق فقط في عوالمه المُتعدِّدة وهو شرف لنا. العالم العربيّ، والعالم الإسلاميّ أبى إلا أن يمتدَّ إلى كلِّ دوائر العالم، والدبلوماسيّة تتطلع أن تمدَّ الجُسُور مع كلِّ دول العالم، ورائدها في ذلك هو المصالح المُشترَكة، وهو عنصر أساسيٌّ في نظريّتنا الدبلوماسيّة لإبرام العلاقات مع دول العالم. حيثما تتواجد مصلحة مُشترَكة بيننا وبين دول العالم نمتدّ لتحقيقها. مرة تكون نفطاً، وطاقة كهربائيّة، وتجارة. لم يعُد العالم اليوم يعيش القرب الجغرافيّ والبُعد الجغرافيَّ العالم اليوم يعيش القرب السياسيَّ والبُعد السياسيَّ، رُبَّما تـُوجَد أنظمة بعيدة جغرافيّاً لكنـها قريبة سياسيّاً، وقد يكون العكس؛ لذلك تعولـَمت الدنيا اليوم ليست بقرار، بل بواقع تبادُل المَصالح. التجارة الآن، وكلُّ المصالح يتمُّ تبادُلها بين دول العالم -والعراق منها- على أساس المنفعة والمَصالح المُشترَكة، وليس المصالح المُشترَكة فقط فقد قفزت اليوم مُفرَدة جديدة، وأخذت حجماً استراتيجيّاً وهي الإرهاب، والخطر عندما يمتدُّ إلى الدرجة التي يستبيح فيها الإنسان، وكرامته، ويغتال الطفولة، ويُدنـِّس الأنوثة، ويحاول أن يعبث بمُقدَّسات الشعوب، ويقرع ناقوس الخطر في كلِّ بلد من البلدان لابدَّ أن يكون الردُّ ردّاً مُعولـَماً، وعندما يكون الفعل كبيراً لابدَّ أن تكون رُدُود فعلنا كبيرة. الإرهاب اليوم لم يقتصر بخطره على العراق فقط، وقبله في الشام وإنما امتدَّ إلى بلدان أخرى، قرع بلدان العالم الديمقراطيِّ، ودخل بيتَ الشعب في كندا (البرلمان الكنديّ)، واغتال اثنين أو ثلاثة من حُرّاس البرلمان، ومارَسَ عمليّة إرهابيّة، وكذلك في فرنسا، والسويد، وتونس.. ما من بلد إلا وهو مُهدَّد بالإرهاب؛ إذن نحن أمام حرب مُعولـَمة حقيقيّة اسمها (حرب الإرهاب). لو دقـَّقنا النظر في الذين اصطفوا على أرض العراق على شكل داعش يجد أنها مجاميع ليست عراقيّة، كما أنـَّها ليست شاميّة فقط وإنما جاءت من أكثر من 60 بلداً من بلدان العالم، واصطفت تحت لواء الإرهاب. على العالم أن يعي هذه الحقيقة، وقد قـُلتُ في عام 2004 في خطاب لي: إنَّ الإرهاب لا دين له، ولا مذهب له، ولا وطن له. يشتبه مَن يتصوَّر أنَّ الإرهاب شجرة الصنوبر تنمو في طقس ما، وتمتنع أن تنمو في طقس آخر، أو إنها نخلة تنبت في مكان ما، ولا تنبت في مكان آخر؛ الإرهاب نـُزُوع شِرِّير يخرج من الطبع البشريِّ، ويتواجد أينما يتواجد البشر كضدٍّ نوعيٍّ يُحاوِل أن يغتال إرادة البشر، ويبعث الرعب، والقتل، وثقافة الانتقام، ويستبدل ثقافة الكره، والشكِّ، والدمار بثقافة الحُبّ؛ لذا فمسؤوليتنا جميعاً أن نواجه الإرهاب بهذا الحجم. الحكومة العراقيّة الجديدة أقدمت على مجموعة خطوات؛ لتـُشكـِّل مُعادِلاً حقيقيّاً لتحدِّي الإرهاب، نعم.. إنَّ القوات المُسلـَّحة العراقيّة شاركت بكلِّ مُكوِّناتها، وكلِّ مَن اصطفَّ معها، فتجد الحكومة العراقيّة والقوات المُسلـَّحة العراقيّة اليوم تتحرَّك في العراق بشكل جيِّد بما فيها قوات الحشد الشعبيِّ، والحرس الوطنيِّ، والبيشمركة، والعشائر العراقيّة تحرَّكت في المعركة لمُواجَهة داعش، ولكن لم يكن هذا التحرُّك بمعزل عن الحركة السياسيّة. اتفقت كلمة العراقيِّين كلـِّهم على 20 بنداً في اتفاق، وعهد شرف أن يُعالِجوا المشاكل التي عصفت بالعراق قبل تشكيل الحكومة في نهاية 2014، وكان البند الأوَّل منها هو أن يعمل الجميع على تشكيل حكومة تعكس بمُكوِّناتها مُكوِّنات الشعب العراقيِّ، ذلك قد كان فما من مُكوِّن عراقيٍّ إلا وله مَن يُمثـِّله في الحكومة العراقيّة، وتمضي اليوم الحكومة لمُواجَهة التحدِّي، وبالفعل بدأ العدّاد التنازليّ لتقدُّم داعش على الأرض بشكل جيِّد، إذ تـُحقـِّق القوات المُسلـَّحة العراقيّة انتصارات باهرة على أكثر من صعيد، فقد وصلت الجريمة في العراق من قِبَل هؤلاء الإرهابيِّين حدّاً فاقعاً، إنهم يُحارِبون الإنسان الآخر، ويقتلون الإنسان الآخر. العراق مُكوَّن من عِدّة أديان، فيه المُسلِمون، وفيه المسيحيّون، والإيزيديّون، والصابئة، وهؤلاء سكنوا العراق، وساهموا في بنائه منذ آلاف السنين، وهم يتآلفون فيما بينهم في كلِّ مدينة حتى إنك عندما تحدق النظر بكلِّ مدينة تجد أنـَّها تنبض بالتنوُّع البشريِّ، فما من مدينة عراقيّة إلا وفيها سُنـَّة وشيعة، وتجد أبناء الديانات في العراق يتوارثون، ويتآلفون، ويتعاونون مع بعضهم في الجامعات -ونحن في حَرَم جامعيّ-، وفي الأسواق، وفي دوائر الدولة، وفي الشوارع، وفي كلِّ مكان، ويدرسون معاً في المدارس بنفس المناهج العلميّة المُقرَّرة. يجلس العراقيُّ مع العراقيِّ الآخر جنباً إلى جنب، إلى أن جاء هؤلاء، وارتكبوا جرائم. مرّة حاولوا أن يشقوا الصفَّ بين السُنـّة والشيعة، وادَّعوا زيفاً أنهم يُدافِعون عن السُنـَّة، وقد فتكوا بالسُنـَّة أيَّما فتك. المحافظات التي احتلها، واعتدى على مُواطِنيها هي محافظات سُنيّة، الموصل عاصمة التسنـُّن في العراق، وفتكوا بالأنبار وهي محافظة سُنيّة، وكذا صلاح الدين. أين دعواهم بأنهم يُدافِعون عن السُنـّة، والسُنـَّة منهم براء، كما حاولوا أن يُوجـِدوا شرخاً بين المُسلِمين وغير المُسلِمين، واعتدوا على الإيزيدية حين ذهبوا إلى سنجار، وقتلوا مَن قتلوا، وانتهكوا الحُرُمات بشكل يندى له الجبين خجلاً وحياءً، بل لم يسلم منهم التراث التاريخيُّ في العراق. مَن يزُر العراق أو -لا أقلَّ- يقرأ عن العراق يجدْ أنَّ الآثار العراقيّة مُمتدَّة إلى قديم الزمان فحاول الإرهابيّون أن يعبثوا بها، ويُخرِّبوها بشكل مُبرَمج. نحن لسنا أمام عدوٍّ لدين الإسلام، أو الأمّة الإسلاميّة، أو هذه الطائفة أو تلك الطائفة، إنما أمام عدوّ للإنسانيّة جمعاء، وأقول لكم ما قلته في 2004: لا تستبعدوا أن تتكرَّر مُشكِلة الإرهاب في كلِّ بلد، وفي كلِّ أمّة من الأمم، قد تنتشر هذه الآفة، وتتشبَّث بمُختلِف العوامل؛ لإفشاء حالة الاحتراب الداخليِّ في أمم العالم سواء كانت أمّة كونفوشوسيّة، أم بوذيّة، أم مسيحيّة، أم يهوديّة مثلما تفشَّت في أمّة الإسلام التي هي براء من هذه الأفكار؛ لذا على الجميع من دون استثناء أن يتحمَّلوا مسؤوليّة الدفاع عن الإنسان، ومُواجَهة هذه الآفة الضارّة. مرّة أخرى أقول لكم: إنَّ العراق الذي استطاع أن يطوي مسافة كبيرة من الزمن في وقت قياسيٍّ جدّاً اليوم، ففي العراق حالة برلمانيّة، وسلسلة انتخابات مركزيّة، وحكومة مركزيّة، وانتخابات في المحافظات لتشكيل مجالس محافظات التي هي برلمانات مُصغـَّرة، وحكومات محليّة طوت مسافة ليست قليلة. الإعلام اليوم في العراق إعلام حُرٌّ لا يُعاني من أزمة إعلام رُبّما نـُعاني من إعلام الأزمة الذي يُسيء للحُرّيّة، وأبواب الحُرّيّة مُشرَعة أمام من يتكلم من دون أيِّ مُشكِلة. العراق -خلال فترة قصيرة من الزمن- استطاع أن يُسجِّل سبقاً رائعاً في مضمار الديمقراطيّة، نعم.. هناك تحدِّيات؛ لذا وقف العالم كله معنا عندما تعرَّض العراق إلى هجمة الإرهاب، ويجب أن أسجِّل شكري لكلِّ الدول التي وقفت إلى جانبنا سواء كان دول التحالف الدوليّ، أم الدول الأخرى خارج التحالف الدوليِّ كالصين وروسيا الاتحاديّة بما قدَّمت لنا من مُساعَدات في الجانب الإنسانيِّ، والجانب الأمنيِّ، والجانب الاقتصاديِّ بخاصّةٍ أنـَّه قد تضرَّر عدد غير قليل من أبناء مُدُننا، وتعرَّضوا لهذا الضرر الكبير، هناك قرابة المليونين ونصف المليون من النازحين العراقيِّين في بلد لا يتجاوز عدد أبنائه 35 مليون أكثر من مليونين نزحوا من مدينة إلى أخرى من الموصل إلى مُدُن أخرى كدهوك وديالى وكربلاء ومُدُن أخرى؛ وهذا سبَّب اختلالاً إلى حدٍّ كبير؛ فاضطررنا أن نستوعب هؤلاء في المدارس، وانعكس على دوام المدارس؛ إذن العراق اليوم يُواجـِه معركة بالنيابة عن كلِّ العالم، العراق يُواجِه معركة، ويُحارِب فيها بجبهتين جبهة الأصالة عن نفسه كدفاع عن كرامته، وثروته، ومُواطِنيه، وجبهة أخرى نيابة ووكالة عن كلِّ مُجتمَعات العالم من دون استثناء. العراقيّون يُدافِعون عن كلِّ بلد من بلدان العالم، ويجب أن يضع العالم هذه الحقيقة أمامه. لا نـُريد رجالاً من هذه البلدان تأتي إلى الأرض العراقيّة، وتـُقاتِل بدلاً عن أبنائنا، إنما نـُريد دعم العراقيِّين، فالعراقيّون أسخياء بدمائهم، وشجعان فيما يُواجـِهون به أعدائهم، وهم اليوم يُسجِّلون أساطير في المُواجَهة، والقتال؛ للدفاع عن مشروعيّة العراق، وعن موقع العراق، وعن كرامة العراق، وثروة العراق، لكننا -بكلِّ تأكيد- بحاجة إلى إسناد هذه البلدان لأن تقف إلى جانبنا، وتدعمنا، وتـُشمِّر عن ساعد الجدِّ، نعم.. العراق بلد غنيٌّ، ومُتعدِّد الثروات، العراق بلد النفط، وبلد النهرين دجلة والفرات، وبلد السياحة هذه الثروة المُتصاعِدة، وبلد الزراعة فهو أرض السواد، وعادةً ما تقترن الزراعة بالثقافة والحضارة فليس غريباً أن يكون العراق بلداً زراعيّاً، وهو معروف بحضارة وادي الرافدين، وليس بعيداً أن يكون بلد حضارة، ولعلَّ الاشتقاق بالإنكليزيّة بين (ثقافةculture ) و (الزراعة agriculture) رُبّما تكون هناك علاقة بين الحضارة والزراعة. الزراعة منشأ الثروة الحقيقيّة، والعراق رغم تعدُّد ثرواته إلا أنـَّه اليوم يعيش حالة استثنائيّة، وهو عندما يأمّل من كلِّ الدول الصديقة، والمُحِبّة، والمتآخية أن تقف إلى جانب العراق ليس فقط لأسباب ودواعٍ إنسانيّة، بل لدواعي الدفاع عن النفس؛ لأنَّ ما يحصل في العراق اليوم يُمكِن أن يتكرَّر، ويمتدَّ إلى أيِّ دولة من دول العالم، وتتكرَّر المآسي هناك؛ لذا دعم المُقاتِلين العراقيِّين على الأرض العراقيّة سيُجنـِّب هذه البلدان أن يمتدَّ الإرهاب إلى بلدانها، ويعبث بثروتها، ويحطم حضارتها، ومدنيَّتها؛ لذا تقبَّل العراق المُساعَدات، لكنه اشترط أن لا تكون هذه المُساعَدات، وهذا الإسناد عسكريّاً كان أم أمنيّاً تدخـُّلاً في الشأن العراقيِّ. الرسالة التي كـُتِبت إلى مجلس الأمن إنما كـُتِبت على أساس هناك حاجة لإسناد جوّيٍّ؛ لأنَّ السياقات الميدانيّة للمعركة تقتضي غطاءً جوّيّاً يُسنِد القوات المُسلـَّحة العراقيّة من دون أن يدخل في السياقات البرّيّة على الأرض، ويأتي بقواعد، ويُعيد شبح ومخاوف القواعد العسكريّة مرة أخرى إلى العراق على غرار ما كان في ألمانيا، واليابان بعد الحرب العالميّة الثانية. نحن لسنا بحاجة إلى قواعد، ولسنا بحاجة إلى جُيُوش تأتي إلى أرضنا، لكننا بحاجة إلى إسناد جوّيٍّ؛ لأنَّ المعركة -بطبيعتها- تتطلـَّب غطاءً جوّيّاً، ومعلومات سواء أكان تدريباً لوجستيّاً، أم معلومات استخباريّة؛ وهذا حقٌّ طبيعيٌّ، بل واجب على دول العالم أن تقف إلى جانبنا. ورُبَّما تكون هذه إجابة عن مجموعة من التساؤلات. وأنا أقف في هذه الجامعة، وقد حدَّثني السيِّد عميد الجامعة قبل قليل عن تاريخ هذه الجامعة، والشخصيّات التي تحدَّثت فيها، والمشاهير الذين تخرَّجوا منها، وهكذا يكون حَرَم الجامعة دائماً يكون رحماً معطاءً، وأنَّ الثالوث الجامعيَّ: (المُعطي الجامعيّ، والمُتلقـِّي الجامعيّ، والوسيط الجامعيّ الذي هو المنهج) دائما يكون قويّاً، ويتكامل مع بعضه؛ وهذا هو شأن الجامعات القويّة التي تـُخرِّج شخصيّات قويّة، وتـُخرِّج مشاهير العالم؛ لأنَّ العالم طوى مرحلة أن يكون الفرد أكبر من الجامعة كما كان الكثير من الشخصيّات المشهورة، فاشتهرت جامعاتها التي درست فيها، وتخرَّجت منها. أمّا اليوم فلا يُوجَد مَن يقفز على المناهج الجامعيّة، واليوم المناهج الجامعيّة استأثرت بالطرق العلميّة الصحيحة، وتـُقدِّم ما لديها من نتاجات انتظمت على شكل مناهج، وعلى شكل مُعطٍ جامعيٍّ؛ لذا أحيِّي كلَّ الجامعات، وهذه الجامعة المُبارَكة، ونأمل أن تـُقدِّم ما تستطيع لخدمة البشريّة. كلُّ شيء من حولنا يعكس فكراً، ويعكس ثقافة لا ينبغي أن ننشغل بسطحيّات الأمور، ولا نغوص في العمق إلى الفكر الذي أنتج إرهابيّاً، والفكر الذي أنجب دُعاة السلام، الفكر حياديٌّ فمرة يكون فكراً مُسالِماً، وأخرى يكون فكراً مُضادّاً للسلم، مُضادّاً للمَحبّة. إذا أردنا أن نمتدَّ إلى العالم فهناك إضافة ثقافيّة جديدة هي ثقافة المَحبّة، والثقة، وعدم التفريق. علينا أن نهتمَّ بالثقافة، ونجعل من الثقافة قارّة مُمتدّة، عصيّة على الانكماش، وعلى الغيتو، وعلى الحصار؛ حتى تـُطِلَّ بهامتها على كلِّ أبناء العالم المَحبّة، والسعادة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مداخلات على هامش المحاضرة..
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: بالنسبة إلينا يهمُّنا كثيراً أنه أينما تواجَدَ الإرهاب أن نـُواجـِهه ليس فقط بمُفرَدنا إنما نحن ودول العالم التي تتفق معنا بمُواجَهة الإرهاب. دول تختلف فيما بينها، ونحن لا ندخل في دائرة التقاطع، هذه سياسة جديدة، ومعلم جديد من معالم الدبلوماسيّة ليس فقط في مُواجَهة داعش. دول الجوار الجغرافيّ: (سورية، تركيا، إيران، السعوديّة، والأردن) قد تختلف فيما بينها، فهناك اختلاف بين تركيا وبين سورية، وبين السعودية وبين إيران، أمّا نحن فنـُريد بناء العراق بكلِّ احترام، ومَحبّة، ونتجنـَّب الدخول في دائرة التقاطع، والشيء نفسه بالنسبة إلى داعش على الأرض، الدول التي مدَّت يدها إلينا لتـُساعِدنا تقبَّلنا ذلك بكلِّ احترام. السيِّد وزير الخارجيّة الروسيّ اتصل بي في نيويورك، وعرض علينا المُساعَدة، وقال بكلِّ صراحة: نحن لا نتعامل من خلال التحالفات الدوليّة ضمن السياسة الخارجيّة، فقلنا: أهلا وسهلاً، نحن نـُرحِّب بمُشارَكتكم حتى إذا كان خارج التحالف الدوليِّ. نحن نبحث عمّا يجمعنا بدول العالم، وعندما تتقاطع، وتختلف فيما بينها لا ندخل في دائرة التقاطع، وكان لنا دور في التقريب بين هذه الدول سنسعى جهدنا من أجل التقريب بينها بخاصّةٍ عندما تكون إحدى هذه الدول دولة جوار، ولكن لا نتوقف عندما تختلف. فإذا كانت هناك ثمة اختلاف -ويُوجَد اختلاف بين أميركا وإيران- نأخذ منهم ما يجمع ضدَّ العدوِّ المُشترَك، وهو الإرهاب.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: العلاقة بيننا وبين تركيا علاقة جوار جغرافيّ؛ استجابة لحقائق الجغرافية، والتاريخ، وحقائق المصادر الحيويّة، وهو ليس بقرار منا أن تكون تركيا شمال العراق، أو نأتي بدولة الكويت، فتكون جنوب العراق، ونحن في بلد شماله تركيا، وجنوبه الكويت؛ لذا يجب أن نـُكيِّف، ونـُطوِّر الديمغرافية على الخارطة الجغرافيّة. تركيا دولة تـُطِلُّ على الحوض الأوروبيِّ، ولها حضارة تاريخيّة، ولها تاريخ قديم في التعامُل مع العراق عبر تجربة ديمقراطيّة صاعدة، ونحن لا نـُريد أزمة في طريقة التعامُل معها، علاوة على ذلك تربطنا مع تركيا مصالح حيويّة مُشترَكة فحجم التجارة الخارجيّة مع قـُبَيل الأزمة الأخيرة كان 18 مليار دولار، أي: حوالى مليار ونصف المليار في الشهر الواحد، وانخفضت قليلاً في أيّام الشِدّة، وبدأت الآن تستعيد عافيتها من جديد، فعبَّرت تركيا في أكثر من مُنتدَى عراقيٍّ وتركيٍّ، وقالت: نحن مع العراق، وضدّ داعش. ونـُريد لهذه العلاقة أن تضطرد، ونعتقد أن الحفاظ على هذه العلاقة من ثوابتنا، كما أنَّ من ثوابتنا الحفاظ على الجوار مع دول العالم الذي من حولنا. علاقتنا جيِّدة، ونأمل أن تكون أفضل من ذلك بكثير بخاصّةٍ إذا أخذ بنظر الاعتبار أن قسماً كبيراً من دجلة والفرات يأتينا من تركيا، ويمرُّ بالعراق.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: إنَّ الذي يجمع الأكراد والسُنـَّة والشيعة هو الوطنيّة العراقيّة. في المُعارَضة كانوا مُستهدَفين من قِبَل النظام المقبور، وعبَّروا بثوراتهم ضدَّ النظام المقبور على حدٍّ سواء، فقتل من الشيعة، وقتل من السُنـّة، وقتل من الأكراد، وثار السُنـّة، وثار الأكراد، وثار الشيعة ضدَّ النظام المقبور. كانت الثورة الشعبانيّة، وكانت ثورة الأنبار الشهيد مُحمَّد مظلوم في المنطقة الغربيّة، ووقعت مأساة حلبجة والأنفال في كردستان. هذه في مرحلة المُعارَضة، والآن السُنـّة والشيعة والأكراد يتواجدون في بيت الشعب (البرلمان)، ويتواجدون في الرئاسات الثلاث (رئيس الجمهوريّة اليوم كرديّ وله نواب من السُنـّة والشيعة، ورئيس البرلمان العراقي سُنـّيّ وله نواب من الأكراد والشيعة، ورئيس الوزراء شيعيّ وله نواب من السُنـّة والأكراد). لا نحتاج إلى جدول لوغاريتمات؛ حتى نـُحلـِّل، ولا نحتاج إلى مكرسكوب، العراق أمامكم يشهد خطاباً مُشترَكاً، وتعدُّديّة مُتكامِلة في الرئاسات، إضافة إلى الثقافة العامّة التي تسود في البرلمان، وفي الإعلام، وفي كلِّ المُنتدَيات الفكريّة نجد التكامُل بيننا، نعم.. رُبّما تحاول بعض العناصر أن تعبث بهذا الانسجام، ولكن لا تتحوَّل إلى ظاهرة. في العراق حالة من التكيُّف، والتعايش بين أبناء الشعب الواحد عرباً وأكراداً، سُنـّة شيعة، ومسيحيِّين ومُسلِمين جميعهم يُساهِمون في بناء العراق الجديد.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: العلاقة بيننا وبين روسيا قديمة، وهناك أكثر من 400 اتفاقيّة، ومُذكـَّرة تفاهُم غطت حقولاً مُتعدِّدة، ومجالات واسعة بشتى نواحي الحياة، ولعلَّ اتفاقيّة 1972 جاءت في مُفرَداتها لكلِّ زيادة في التعاون، وربطت بين روسيا وبين العراق.. تقادُم الزمن قد يُغيَّر وزراء، وتـُغيَّر حكومات، ولكن لا تـُغيَّر الحقائق، والمصالح المُشترَكة، ونحن مُتمسِّكون بتجذير العلاقة بيننا وبين روسيا. روسيا دولة لها شأن عالميٌّ، ولها تجربتها، ولها إطلالتها في مجالات الحياة المُختلِفة من اقتصاد، واكتشافات علميّة. ولعلَّ يوري غاغارين 1965 انطلق من هنا إلى عالم الفضاء، نحن لا نقتصُّ من شعب، ولا نقتصُّ من أحد، بل ننفتح على كلِّ دول العالم خصوصاً مع روسيا؛ لأنـَّها وقفت إلى جانبنا في التحدِّي الأخير لمُواجَهة الإرهاب، وكان موقفاً مُشرِّفاً، ومدَّت يد المُساعَدة على مُستوى الخدمات الإنسانيّة، وفتحت أبواب العلم والأكاديميّات لاستقبال الطلاب العراقيِّين في الحقل الدبلوماسيّ والحقول الأخرى. علاقتنا جيِّدة، ونتمنى أن تكون أفضل من ذلك، وهذا جزء من سياستنا سياسة الانفتاح، وتبادُل المصالح مع كلِّ دول العالم.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: النظام في العراق لم يقـُم على أسس طائفيّة. الطائفيّة في العراق لم تتحوَّل إلى ثقافة، بل لا يُوجَد هناك تعاطٍ ثقافيٍّ على مُستوى المُجتمَعات التي تـُشكـِّل، وتـُركـِّب العراق. رُبَّما تكون هناك بعض العناصر السُنـّيّة، أو الشيعيّة، أو الكرديّة، لكنَّ ذلك لا يعني أن تأخذ قدراً مُجتمَعيّاً فنتهمّ كلَّ السُنة، وكلَّ الشيعة، وكلَّ الأكراد. في كلِّ مكان تجد السُنـّيَّ يجلس إلى جانب الشيعيِّ، وإلى جانب الكرديّ. هناك مُحاوَلات قبل داعش أتتنا عبر الحدود من الخارج للعبث بالوحدة الوطنيّة العراقيّة، وتحويل التعايش الوطنيِّ بين أبناء الدين الواحد، وبين أبناء الديانات المُتعدِّدة مسيحيِّين، ومُسلِمين، وصابئة، وإيزدية، وإيجاد اقتتال عراقيّ-عراقيّ. هذه المُحاوَلات كنا نرصدها من كثب، ونراقبها وهي تتحرَّك، وأحبـِطت، ولم تتحوَّل إلى ثقافة مُجتمَعيّة. دعني اضرب لك أمثلة بسيطة، وأرجو أن تستحضرها؛ لأنـَّها لم يمضِ عليها عقد من الزمن: الحكومات التي تشكـَّلت ما تشكـَّلت بإرادات صراع إنما تشكـَّلت من وحي التعايش المُجتمَعيِّ العراقيِّ بين السُنـَّة والشيعة، فما من مدينة عراقيّة إلا وفيها سُنـّة وشيعة، وما من قبيلة عراقيّة إلا وفيها سُنـّة وشيعة. أنت رجل نداويّ من الإخوة السُنـّة، لكنَّ سكرتيري الشخصيّ كان نداويّاَ، وكان شيعيّاً، وكلاكما نداويّ النسب، وكذا تميم فيها سُنـّة وشيعة، وخزاعة سُنـَّة وشيعة، وشمّر بها سنـَّة وشيعة، وعُبيد فيها سُنـّة وشيعة، أيّ منطقة تبدأ من جنوب العراق من البصرة حيث الغالبيّة الشيعيّة والأقليّة السُنيّة، ثم تزحف إلى المُدُن إلى الشمال حتى تصل إلى الموصل. أنا خِرِّيج جامعة الموصل حيث الغالبيّة السُنيّة والأقليّة الشيعيّة. فلا يُوجَد شيء اسمه اقتتال سُنـّيّ-شيعيّ مُجتمَعيّ إنما تـُوجَد بعض العناصر تحاول أن تتناكد، وتتشاكس فيما بينها، وهي عناصر شخصيّة فقط. نسبة الزواج بين السنة والشيعة 26.9%، أي: كلُّ أربعة عراقيِّين فيهم واحد ينحدر من أب من مذهب، وأمّ من مذهب آخر. أين تجد مثل هذا النوع في العالم من التعايُش المُتكامِل، والمُمتدّ إلى كلِّ مجال، نعم.. قد تحاول بعض العناصر أن تعصف بها بثقافة عنصريّة، ولكن لا نستطيع أن نتهم كلَّ عربيّ أنه عنصريّ، أو نتهم كلَّ الأكراد أنهم عنصريون، بالعكس فالثقافة الوطنيّة العراقيّة الآن تمتدُّ، وتحاول أن تحدَّ من بعض النزاعات الوافدة إلينا من الخارج العراقيّ. التفجيرات التي حصلت قبل مرحلة داعش، تعرفون جيِّداً في عام 2005 و 2006 تعرَّض العراق لبعض العمليّات العنفيّة، وأذكر جيِّداً في حادثة جسر الأئمة -إذا كان حاضراً في ذاكرتكم راح إثرها 1000 شهيد عراقيّ من الشيعة، سألت الأخ إياد النداويّ: هل يُوجَد من هؤلاء الـ1000 سنيّ واحد؟ جاءني على وجه السرعة، وقال: هناك شخص واحد سُنيّ اسمه (عثمان عليّ العبيديّ)، فحوَّلته إلى نشيد وطنيٍّ؛ حتى نعمل مُعادِلاً، ولئلا تعصف الحالة العاطفيّة بخاصّةٍ أنه كانت مُناسَبة شيعيّة، والجسر يمتدُّ إلى الأعظميّة، وقد -لا سمح الله- تـُرتكـَب تجاوزات، فحوَّلت عثمان العبيديّ إلى مُعادِل وطنيٍّ، وقلت: هذا الذي يُمثـِّل السُنـّة، كان سبّاحاً، وأنقذ 6 من الغرقى الشيعة، وغرق مع السابعة؛ لأنها كانت سمينة، وأمسكت به، ففقد السيطرة وغرقا معاً؛ إذن الحالة العراقيّة تحمل في ثناياها، وفي أحشائها حالة من الوئام فيما بينها. أمّا الخطوات فهي -في تصوُّري- التواجُد في البرلمان بشكل مُستمِرّ، والتواجُد في أروقة الحكومة، وفي الجامعات، وفي الإعلام. هذه المسؤوليّة تقع على عاتق كلِّ المثقفين العراقيِّين. أنا أعتقد أنَّ كلَّ نعرة تنطوي على ثقافة، وكلَّ احتلال ينطوي على ثقافة احتلال فما استطاع هتلر أن يحتلَّ بولندا، وتشيكوسلوفاكيا، وذهب إلى احتلال باريس وبعدها وصل لروسيا ضمن الاتحاد السوفيتيّ إلا سبقته ثقافة الاحتلال. شعبنا شعب غير مُثقـَّف على الاحتلال، وغير مُثقـَّف على الطائفيّة؛ لذا عندما احتلَّ صدّام الكويت ما وجد الشعب العراقيَّ يتفاعل معه؛ لأنه لم يكن مُثقـَّفاً على الاحتلال. الشعب مُسالِم، ويتعامل بلغة المَحبّة. هذه هي ثقافتنا الأصيلة. الكرديّ، والعربيّ، والتركمانيّ، والسُنيّ، والشيعيّ، والمُسلِم، والمسيحيّ، والإيزديّ، والصابئي كلهم يحنُّ بعضهم على البعض الآخر، ويتكيَّف بعضهم مع البعض الآخر. شعبٌّ قـُدِّر له أن يكون مُتعدِّد التكوين.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: الآثار التي ترمز إلى الحضارة، والتاريخ في العراق، والآثار الموجودة في الموصل كثيرة جدّاً، وكذلك في أربيل، والناصرية، والحلة التي تحرَّك عليها نبيُّ الله إبراهيم -عليه السلام-. كلُّ شيء في العراق يعكس ثروة إرثيّة قديمة تعرَّضت للتدمير، والتدنيس. وموقف روسيا سواء كان ما سمعته مُباشَرة من الحكومة الروسيّة من مواقف الإدانة، وما نطمح أن نسمعه على منبر الأمم المُتحِدة هو أن يقفوا جميعاً في الدفاع عن هذه الثروة البشريّة. الإرث التاريخيّ الحضاريّ اليوم هو ملك لكلِّ البشريّة، وعلى البشريّة كلها أن تـُدافِع عن هذه الحضارة. أمم العالم تحترم تاريخها، ويوم أمس كنتُ أتطلـَّع إلى مدينة موسكو، وأسترجع قراءاتي عن روسيا، وعن ستالين وغيره ممّن بناها -بغضِّ النظر عن آرائنا بالقادة السياسيِّين- أجد أنها مدينة تنبض بالإرث التاريخيِّ. الإرث التاريخيّ هو ملك لكلِّ البشريّة، وليس لبلد دون آخر، فمُؤسَّسات روسيا تـُبدي تعاطفها، وكذلك الحكومة الروسيّة، ونحن نـُشيد بهذا الموقف، ونتمنى أن تستمرَّ في الدفاع عن الإرث الحضاريِّ العراقيِّ؛ لأنه إرث إنسانيٌّ لا يخصُّ العراق فقط.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: أمّا عن سبب انتشار الألغام المُختلِفة. العراق تعرَّض لثلاثة حُرُوب: (حرب الخليج الأولى، والثانية، والثالثة)، ومنذ عام 1981 إلى 1988 أطول حرب في القرن العشرين، بل أطول من الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وكذلك حرب الخليج الثانية حين احتلَّ صدّام الكويت، وأخيراً الحرب الثالثة التي تداعت دول التحالف لمُواجَهة النظام المقبور في العراق كان من استحقاق هذه الحُرُوب الثلاثة أن تترك آثارها، وبصماتها، وكانت تزرَع هذه الألغام، وكذلك الألغام التي كان يزرعها صدّام في الحُرُوب المحليّة، وإلى الآن رُبَّما يُحذَر الاقتراب من بعض المناطق الجبليّة؛ لوجود قنابل وألغام مزروعة فيها. أنا أشكر كلَّ الجُهُود الخيِّرة لمُهندِسيكم، ومُختصّيكم الذين نزعوا فتيل القنابل، ونتطلع إلى المزيد من التعاون؛ لنصرة السلم والمَحبّة. أمّا علاقتنا بدول الحوض الآسيويِّ الخاصّ فنتمتـَّع بعلاقة جيِّدة، وسياستنا قائمة على الانفتاح، والتعامُل معها، وتبادُل المصالح، واستقبالهم وزيارة بلدانهم، والتمثيل الدبلوماسيّ المُشترَك. بيننا وبينها علاقة جيِّدة، ونتطلع أن تكون أقوى بمُرُور الزمن.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: عندما أنفي في الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لا يعني أني -بالضرورة- أزكـِّي هذا الطرف أو ذلك الطرف، أو هذه الدولة أو تلك الدولة، ولكن يجب أن أكون أميناً بما لديَّ من معلومات. بقدر ما لديَّ من معلومات لم يثبت لدى القوات المُسلـَّحة العراقيّة تورُّط أيِّ دولة من دول التحالف أنها تمدُّ المُساعَدة بطيرانها سواء كان بإنزال موادَّ غذائيّة، أم إلحاق ضربات بحقِّ القوات المُسلـَّحة أو قوات الحشد الشعبيّ، ولو ثبت لدينا ذلك لن نستحي من أن نقول وعلى العلن، ولكن لم يثبت لدينا ذلك، أنا أقول لك: نحن نعيش في عصر الادَّعاءات، والتدبيج الفنيّ، ولكن لم يثبت لدينا ذلك عمليّاً.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: أمّا عن علاقة أنقرة بأربيل فهي علاقة بين تركيا وبين العراق، وأربيل تـُمثـِّل عاصمة لإقليم كردستان ضمن العراق، ونسعى إلى علاقة جيِّدة مع دول العالم، وكذلك من خلال العراق مع كلِّ مُكوِّناته. أربيل باعتبارها عاصمة إقليم كردستان، ونضال كردستان، والتضحيات التي قدَّمها الشعب يجب أن نعطيه رعاية تتناسب مع تاريخه، وثرواته، وحجمه الديمغرافيِّ، ولا نجد تناقضاً في أن تتعامل تركيا مع أربيل، ورُبَّما غداً أو بعد غد تتعاون مع أيِّ إقليم من الأقاليم العراقيّة. هذه المحافظات من حقها أن تكون إقليماً، والآن الإدارات المحليّة الفيدراليّة الموجودة ليس لدينا معها مُشكِلة من هذه الناحية. وأمّا علاقة العراق بسورية.. سورية دولة جوار جغرافيّ نتعامل معها مثلما نتعامل مع بقيّة الدول الأخرى، ولا نـُريد أن ندخل في الخلافات والتقاطعات الموجودة، رُبّما تحرَّك الشعب التونسيُّ ضدّ زين العابدين بن علي، ووقفنا إلى جانب الشعب التونسيِّ ضدَّ حكومة زين العابدين بن علي، وعندما وقف الشعب الليبيّ كلـُّه ضدَّ معمر القذافي وقفنا إلى جانب ليبيا ضد القذافي، وعندما تحرَّك الشعب السوريّ اختلف الأمر، فقسم مع الحكومة وقسم اختلف مع الحكومة، ولا نملك ناصية أن نـُمثـِّل هذا الشقَّ من الشعب السوريِّ، أو ذلك الشق؛ لذا وقفنا على مسافة مُتقارِبة مع الجميع، وقلنا: نحن مع الشعب السوريِّ مثلما نحن مع الشعب التونسيِّ، والمصريِّ، واليمنيِّ، والليبيِّ، والمصريّ. سورية دولة جوار جغرافيّ، ومن الطبيعيِّ أن نعقد معها علاقة، ونعتقد أنه يُمكِن اللجوء إلى حُلول سلميّة وسياسيّة لحلِّ المُشكِلة الموجودة بين المُعارَضة وبين الحكومة السوريّة. في تقديري.. أنـَّه يُمكِن الدخول من بوّابة الحُلـُول السياسيّة، والإنسانيّة، ومنها: فتح باب التعدُّديّة الحزبيّة، وإطلاق سراح الأبرياء من السُجُون، وإلغاء صفحة الحزب الواحد، وفسح المجال أمام تعدُّديّة الأحزاب، والولوج إلى عالم التعدُّد الديمقراطيِّ. أعتقد أنَّ الإصرار على الحلِّ العسكريِّ على مدى الأربع سنوات كانت نتيجته المزيد من الدماء، وأصبح الشعب السوريّ تحت مطرقة الحاكم، وسندان المُعارَضة. المعارضة نفسها لم تتفق على شخص يُمثـِّلها، وعلى أفكار عامّة، وعلى مُرتكـَزات عامّة فكيف نـُعوِّل على وجود بديل لنظام قائم. نحن لسنا دُعاة إلى هذا النظام أو ذلك النظام، ولا نتدخـَّل في شُؤُون أحد لكننا نـُريد للشعب السوريِّ أن لا يقع في هذه الحالة، وتلتهمه نيران الخلافات، والمشاكل، والعمل المُسلـَّح. ما انتقل إلى العراق جاء من سورية، وقلنا ذلك منذ وقت مُبكـِّر: إنَّ الاستمرار في استخدام العنف والعنف المُضادّ سينتقل إلى العراق. أعتقد أنَّ اعتماد الحُلول السلميّة من دون التدخُّل في شأن الشعب هو الحلُّ الأمثل؛ لذا نودُّ أن نـُبقي العلاقة جيِّدة مادام الشعب راضياً، ويتفاعل مع حكومته. نحن نتعامل مع الحكومات من خلال الشعوب، ولا نتعامل مع الشُعُوب من خلال الحكومات. كلُّ حكومة من حكومات العالم نتعامل معها تعبير عن احترامنا لإرادة الشعب الذي اختارها، وعندما يُغيِّر الشعبُ الحكومة سنـُغيِّر كذلك.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: أنا أتحفـَّظ عن تسمية هذه المجموعة بأنها دولة إسلامية. الإسلام براء من هذه الحالة، هؤلاء لا يُعبِّرون عن الإسلام. كلمة الإسلام تعني السلم. والسلم اسم من أسماء الله: (السلام، المُؤمِن، المُهيمِن)، والسلام في خاتمة كلِّ صلاة، والسلام في تحيّة وبدء الافتتاح في كلِّ لقاء، ومُصافـَحة بين المُسلِمين وغير المُسلِمين فلا يُعقـَل بمَن يُسمِّي نفسه مُسلِماً وهو ينتحل صفة الإرهاب، ويعمل على قتل النفس. الإسلام براء من هؤلاء، ورأيتم عبر شاشات التلفزيون كيف يُحرِقون الأحياء، ويقطعون الرؤوس، ويُمارِسون أشدَّ أنواع العنف. أمّا الحلُّ العسكريّ فنحن لا نـُريد أن نلجأ عسكريّاً لحلِّ أيِّ مُشكِلة، وإنما نعمل بالحُلول السلميّة، والحوار. أعتقد أنَّ ما تضيق به البندقيّة يتسع له القلم، وما تضيق به الطلقة تتسع له الكلمة. الحوار هو الحلُّ الأمثل، ويأخذ زمناً أقصر في حلِّ المُشكِلات، ولكن عندما يستبيحك الآخر، ويُشهـِر سلاحه عليك، ويقتل المُواطِنين، ويعتدي على النساء، ويذبح الأطفال، ويسلب الأرض، ويمسُّ الكرامة؛ عندئذٍ لا تكون أنت البادئ، وإنما أنت المُدافِع عن كرامة الناس. شعبنا يُريد منا حمايته، والدفاع عنه. نحن نـُفرِّق بين أن نبدأ بحُلول عسكريّة الجواب لا.. لكن عندما يفرض الآخر علينا حرباً لابدَّ أن نـُدافِع عن كرامتنا، وعن أرضنا، وعن مُواطِنينا، فتكون حربنا حرباً دفاعيّة كما هي الآن. الكثير من دول العالم في أوروبا ومُختلِف مناطق العالم عندما ظهرت بعض الديكتاتوريّات، وبدأت تشنُّ حُرُوباً مثلما فعل هتلر وموسوليني في الحرب العالميّة الثانية اضطرّت دول العالم الأخرى أن تـُدافِع عن نفسها بالحُلول العسكريّة، لكنها لم تبدأ بحلٍّ عسكريٍّ. نحن لسنا مع الحلول العسكرية إلا إذا فـُرِضت علينا حرب عسكريّة سوف لن يكون لدينا خيار إلا الدفاع عسكريّاً، كما قال الشاعر العربيّ: إذا لم تكن إلا الأسِنـّة مطلباً فما حيلة المُضطرّ إلا رُكـُوبها.
العودة إلى صفحة الأخبار |
|