|
كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة في الحفل التأبينيِّ الذي أقيم في مقرِّ وزارة الخارجيّة استذكاراً للشهداء الذي طالهم التفجير الإرهابيّ العام الماضي
الاخبار | 06-02-2015
أقامت وزارة الخارجيّة العراقيّة حفلاً تأبينيّاً استذكاراً لشهداء الوزارة الذين قضوا في حادث إرهابيٍّ العام الماضي، وخلال الحفل وضع السيِّد الوزير إكليلاً من الزهور على النصب التذكاريِّ في مقرَّ الوزارة، وألقى معاليه كلمة، إليكم نصّها:
كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة في الحفل التأبينيِّ الذي أقيم في مقرِّ وزارة الخارجيّة استذكاراً للشهداء الذي طالهم التفجير الإرهابيّ العام الماضي 5/2/2015
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. قال الله -تبارك وتعالى- في مُحكَم كتابه العزيز: ((ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون فرحين بما اتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الا خوف عليهم ولاهم يحزنون)) عام مضى على ذكرى استشهاد كوكبة من العاملين في وزارة الخارجيّة،ولم تكن الكوكبة الأولى، ونتمنّى أن تكون الأخيرة. هؤلاء كانوا يعملون في خندق الخارجيّة، ولم يكونوا عسكريِّين، ولم يكونوا حاملي سلاح، ولم يكونوا مُعسكَرين، وضمَّتهم أكثر من هويّة، وأكثر من خلفيّة.. ثنائيّات تعدَّدت في تكوينتهم المُختلِفة، وبزغت في سماء هذه المجموعة نجمتان من النساء توشَّحتا وشاح الشهادة... لماذا استـُهدِف هؤلاء، ما الذي عملوه؟ خندق الدبلوماسيّة خندق حلِّ المشاكل بالطُرُق السلميّة، والتقريب بين الناس، والتقريب بين مُختلِف الدول، والتعامُل مع مُختلِف المُنظّمات الدوليّة أدب يدبُّ في كلِّ مرافق الخارجيّة، والدبلوماسيّة.. لماذا تُستهدَف الخارجيّة؟ من طبيعة هويّة المجنيِّ عليه، والضحيّة تتعرَّف إلى طبيعة هويّة الجاني، واليد الآثمة التي امتدَّت لاختطاف حياتهم. هؤلاء الشهداء كانوا يعملون معكم؛ من أجل قضاء حاجات الناس، والآن هم عند الله -عزَّ وجلّ-، وقد نهى القرآن الكريم أن نعتبر هؤلاء أمواتاً: ((ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون)) لذلك يحسن بنا بشكل سريع -وأنا أقف في واحة ثقافيّة دبلوماسيّة-أن نفهم ماهو معنى الحياة. القرآن الكريم ينهانا أن نقول إنَّ هؤلاء أموات؛ بل أمرنا أنَّ نقول: إنهم أحياء. ماهي الحياة في مفهوم القرآن الكريم، هل الحياة أن نأكل، ونشرب الحيوانات تأكل، وتشرب أيضاً، وهل الحياة أن نُكثِر من الأولاد والذرّيّة الحيوانات تتكاثر أيضاً، هل الحياة أن نستهلك فبقيّة المخلوقات تستهلك أيضاً؟ الحياة في القرآن الكريم ثلاث كلمات: (الإنتاج، والشعور بالسعادة، والتواصُل مع الناس).. إذا تحققت هذه العناصر فنحن أحياء، وإذا فقدناها فنحن أموات، وإن كنا أحياءً بالبدن.. نأكل، ونشرب، ونمشي بين الناس.. إذا جسَّدنا هذه العناصر سنبقى أحياءً حتى إذا رحلنا إلى قرب الله -تبارك وتعالى-؛حتى نستفيد من إحياء الشهداء ذكرى لنُحيي مُؤسَّساتنا، ونـُحيي شخصيّاتنا، ونـُحيي كلَّ مَن يتعامل معنا. علينا أن نـُحوِّل هذه المُناسَبات من ذكرى تأبين إلى ذكرى حياة، بل إلى حيويّة في الحياة.. الإنتاج في القرآن الكريم لا يعني الآلة أو ثالوث الإنتاج المادّيّ كما اختزلته بعض نظريّات الاقتصاد، وانتهت إلى ماانتهت إليه؛ الإنتاج الحقيقيّ هو أن نـُعمِّر الأرض، ونـُكافِح الفساد، ونبني الاقتصاد، ونهزم الفقر، ونـُشيع ثقافة المُساواة بين الناس. هؤلاء الشهداء أحياءٌ عند ربِّهم يُرزَقون، أيُّ رزق، وأيُّإنتاج أشرف، وأعلى من هذا الرزق. إنَّ الإنسان في لحظة واحدة قبل أن يسقط إلى الأرض يعرج إلى ربِّه راضياً مَرضيّاً. ((بل أحياء عند ربِّهم)). هذه العنديّة الشأنيّة الكبيرة، أيُّ رزق أعظم من أن يكون الإنسان يكون عند الله -عزَّ وجلّ-. ((فرحين)). كثير من الناس يفرحون، ويتصوَّرون أنـَّهم في سعادة، إلا أنهم في الشقاء، يقول الشاعر: ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم يتصوَّر أنه سعيد، وهو في الشقاء. هؤلاء الشهداء لديهم فرح من نوع آخر، وهو: ما آتاهم الله من فضله. هذا هو الفرح الحقيقيّ الذي لاينتهي، هذا هو السعادة غير المُزيَّفة. السعادة أن يكون الإنسان مُنسجِماًفي نفسه مع قِيَمه، ومبادئه، ويتعاطى مع كلِّ شيء مِن حوله على وفق قِيَمه ومبادئه تلك. الفرح الدائم أن يُواصِلوا علاقتهم مع الآخرين وهم في علياء القرب من الله -تبارك وتعالى-، فيُطِلون من عليائهم إلى عالم الدنيا. ((ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم)).. ينظرون إليهم من فوق يُبشِّرونهم.. ((ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون)).. العوامل النفسيّة في داخل الشخصيّة أكثر مايُزعِجها القلق. القلق من شيء سيحصل يُعبِّر عنه القرآن الكريم بأنـّه خوف، ويُعبِّر عن شيء قد حصل قطعاًبأنـّه حُزن. .إذا مرض أحد ما نقلق عليه، وإذا مات نحزن عليه؛ إذن القلق من أمر مُتوقـَّع هو الخوف، والقلق، والانزعاج، والاضطراب من أمر قطعيٍّ هو الحُزن. فما أروع أن يُفرَغ وعاء المشاعر من الخوف والحزن. مُنتهى السعادة أن يمشي الإنسان مشية الواثق بنفسه لا يُساوره قلق، ولايُهدِّده حزن.. هذا قد حصل عليه الشهيد. مُشكِلة الموت أنه لايحدث إلاّ مرّة واحدة، وكلُّ مِحنة، وكلُّ مُشكِلة قد تتكرَّر في حياة الإنسان فيأخذ منها درساً، ويتهيّأ في الدرس القادم إلا الموت فإنّه لا يحدث إلا مرّة واحدة؛ لذا صعب على الإنسان أن يتصوَّره، لكن عليه أن يتصوَّره؛ لأنه قادم لامحالة: ((انك ميت وانهم ميتون)) الموت حقيقة -والحقيقة لاتبدل من نفسها شيئاً-، وهو غير قابل للتجربة، فلا أحد يموت، ثم يرجع مرة ثانية، نعم.. قد يمرض، ويتعافى، ويمرض مرة أخرى، وقد يفتقر، ويتغلب على الفقر، ويصير غنيّاً، ثم يصير فقيراً مرة أخرى، إلا الموت فإنه يحصل مرّة واحدة، والمُشكِلة الثانية في الموت هي إنَّ تسلسل الموت ليس كتسلسل الحياة يأتي بأقدم العمر، أي: أن يكبر بالعمر، فلا أحد يأمن من أن يتخطـَّفه الموت، ولا يتصوَّر الإنسان أنه يتأبَّد؛ فمن عُقدة التأبُّد تنشأ عُقدة التملك حتى ولو كان من حرام، أو من فساد.. علينا أن ندرس سيرة هؤلاء، ونعتبر بهم. هذه الجريمة ارتـُكِبت في العام الماضي في مثل هذا اليوم، وراح ضحيَّتها ثلاثة عشر شهيداً، وسبعة جرحى، بضمنهم اثنتان من النساء.. كم أباً ثـُكِل، وكم أمّاً ثـُكِلت، وكم امرأة ترمَّلت، وكم زوجاً فقدَ زوجته، وكم طفلاً تيتـَّم؟ هل هذه مُقاوَمة؟ لا.. المُقاوَمة شرف، ووسام.. المُقاوَمة ردُّ فعل طبيعيّ على احتلال، والثورة ردُّ فعل طبيعيّ على الدكتاتوريّة.. كلنا كنا نـُناضِل في ساحة مُواجَهة النظام المقبور -وشرف لنا- من بلد إلى بلد، واستـُشهـِد مَن استـُشهـِد، وسُجـِن مَن سُجـِن، وهاجَرَ مَن هاجَرَ. كنا نقاوم الاحتلال بكلِّ شرف، والآن قد خرج الاحتلال من العراق. هذه العمليّة الإرهابيّة جرت هنا في عُقر الدبلوماسيّة العمق الإنسانيّ، بماذا يُواجه أصحاب الوُجُوه السُود، والقلوب الأكثر اسوداداً الله تبارك وتعالى؟ قلنا منذ عام 2004: الإرهاب لا دين له، ولا مذهب له، ولا وطن له، وماتفاعل أحد معنا، وفي أثناء استقبالنا الوفود، والدول التي زرناها قلنا لهم: إنَّ هذه هي الحرب العالميّة الثالثة الحقيقيّة.. الحربان الأولى والثانية ماكانتا عالميّتين.. كذب ليستا عالميّتين.. الحرب الأولى كانت بين دول المحور ودول التحالف، إنهم يُريدون أن يقولوا: إذا غضبت أوروبا يغضب العالم كلّه: إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضاباً أغلب دول العالم ماكانت مُشترِكة في الحرب العالميّة.. الحرب على الإرهاب هي الحرب العالميّة الحقيقيّة؛ فما من معبد، ولا مطعم، ولا مُتنزَّه، ولا سوق تجاريّ، ولا مدرسة، ولا مُستشفى، ولا جامعة إلا وهي خندق من خنادق المُواجَهة ضدَّ الإرهاب.. كان المفروض على العالم أن يصطفَّ معأيِّ دولة منكوبة بالإرهاب، وهذه كانت من مُفرَدات خطابنا في الأمم المُتحِدة، وفي باريس، وفي جدّة. على العالم أن يصطفَّ إلى جانب كلِّ دولة منكوبة خصوصاً العراق؛ لأنّه الآن في الخط الأول من المُواجَهة، العراق يُقاتِل اليوم دفاعاً عن نفسه، ونيابة عن الآخرين. العراق اليوم يخوض حرباً بالنيابة عن كلِّ العالم؛ نعم.. الحرب تدور على العراقيّة، لكنَّ عناصر داعش ينتمون إلى دول العالم، وقد جاؤوا حتى من أرقى الدول في النادي الديمقراطيِّ، جاؤوا من أستراليا، وكندا، وأميركا، وفرنسا، وبريطانيا، والدول الاسكندنافيّة؛ فمادامت داعش والإرهاب مُعولَماً ينبغي أن يكون ردُّ الفعل مُعولماً. كلُّ العالم مدعوٌّ لأن يقف إزاء هذا المرض الفتّاك الذي هو أخطر من السرطان، وأخطر من الأمراض المُعدية كالأيدز، والتدرُّن، والكوليرا، وإنفلونزا الطيور. هذه تنتقل بوساطات ومنها الهواء، أو الحليب، أو الماء، أو ماشاكل ذلك، أمَّا الإرهاب فيُمكِن أن ينتقل عبر الإنترنت، ويُحدِّد الهدف، ويُعطي إشارة لمجانين الانتحار. الكثير أقدموا على الموت انتحاراً، ولم يُسجِّل لهم التاريخ شرفاً فهذا هتلر انتحر، وكوبلكس وزوجته كلر ماتا انتحاراً.. كلر قتلت أطفالها الستة بيدها، جاءت بمُستشارها وطلبت منه: ما أسرع طريقة لموت أولادي؟ قال: أحقنهم بمادّة سامّة. قالت له: آتِ بها.. أيقظوهم من النوم، ضحكت معهم، وقالت لهم: سيزرقونكم إبراً لغرض الوقاية (فاكسين)، وماتوا الواحد تلو الآخر. هذا ليس شجاعة، هذا جنون، وكذا موسوليني وعشيقته، وغيرهم ممَّن انتحروا، وتسبَّبوا بكوارث على البشريّة. نحن أمام ثقافة وحشيّة تستهدف الإنسان، وتتفنـَّن بتبضيع جسده، وقتله. وزارة الخارجيّة في الوقت الذي تـُؤبِّن، وتنعى هؤلاء، وتستذكرهم ينبغي أن لايبارحوا ذاكرتنا، وينبغي أن يبقوا خالدين في الذاكرة، وعلينا أن نشيع ثقافة المحبّة، والأخوّة، والتواشُج بيننا؛ لأنَّ هؤلاء في يوم ما كانوا معنا والآن ارتحلوا إلى عالم آخر. الأمم الحيّة تـُمجِّد رجالها، وعظماءها، أمّا الأمم الميتة فتغتال رجالها، ثم تبكي عليهم بعد أن يموتوا. أشيعوا ثقافة المحبّة بينكم، وثقافة التعاون. عندما تبدأون بالعمل يبدأ عدّاد الزمن.. أسألكم: بماذا يدور عدّاد الزمن هذا؟ ينبغي أن يدور في خدمة المُواطِنين، وقضاء حوائجهم، ورفع اسم العراق في النادي الدوليِّ، وإشاعة ثقافة الدبلوماسيّة؛ حتى تمتدَّ الدبلوماسيّة من دوائركم إلى بُيُوتكم. دبلوماسيّة خُلق صادق، وليس الكذب والدجل على نظريّة ميكافلي. لا.. إنما الصدق بلغة تنزل على شكل إسقاطات على النفس البشريّة، فتجد تلقـِّيات إيجابيّة تتفاعل معها. هذا دوركم.. لقد اخترتم سلك الدبلوماسيّة، ومن ليس لديه كفاءة فليرتقِ إلى مُستوى الكفاءة، لا نـُريد منكم إلا العمل النوعيَّ المُمتاز من الصباح إلى نهاية الدوام لخدمة المُواطِنين، ونـُريد الانسجام فيما بينكم، وإعلاء كلمة الوطن. عقد المُواطنة هو سمة الحضارة في المُجتمَعات الحيّة، ووزارة الخارجيّة من أجل العراق كلّه، نحن نعتزُّأن بيننا تنوُّعاً دينيّاً، ومذهبيّاً، وقوميّاً، وسياسيّاً لكنَّ كلمة العراق أعلى من كلِّ الكلمات، العنوان العراقيُّ يتقدَّم على كلِّ العناوين.. لتتقدَّم العراقيّة على كلِّ الخصوصيّات سواء كانت قوميّة أم دينيّة. هذه هي ثقافتنا، وليست هي ثقافة للتسلية، ولا للترف إنما هي ثقافة التزام، ووعي، ويجب أن يُحاسِب القانون مَن يُخالِفها.. العراق أعطانا كلَّ شيء، ولابدّ أن نُعطي العراقَ كلَّ شيء، العراق لم يُميِّز بين العراقيِّين، فعلى العراقيِّين كلّهم أن يُعطوا العراق كلَّ شيء. أعطانا هواءه، ونفطه، وزرعه، وكرامته، وتاريخه، وحضارته، وسيادته منذ فجر التاريخ.. حين تقول: أنا عراقيّ يعرفك مَن لديه ثقافة بأنّك تنحدر من ثقافة وحضارة أصيلة. ظواهر الفساد المُمتدّة في الكثير من دوائر الدولة لا ينبغي أن نكون جزءاً منها، ولا ينبغي أن نسكت عليها، بل لابدَّ أن نكون مُعادِلاً ثقافيّاً إصلاحيّاً لكلِّ فساد.. أشرف المعارك أن يواجه المُصلِح الفاسد. تطلّعاتي، وتمنّياتي على أبنائي وبناتي في الخارجيّة العراقيّة أن يعملوا في الحياض الدبلوماسيّ سواء كانوا إداريِّين، أم فنيِّين أن يحملوا هذه الرسالة، وأن لا يتردَّدوا في إعلاء صوت الدولة العراقيّة الجديدة التي يتساوى فيها المُواطِنون، ويتقدَّم الأكفأ على الكفوء، والآمن على الأمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العودة إلى صفحة الأخبار |
|