كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقـيّة في المُنتدى الآسيويِّ الخاصِّ بحماية التراث والآثار تحت شعار (الثقافة تحت التهديد)
الاخبار | 25-09-2015
بسم الله الرحمن الرحيم
السيِّد الرئيس..
أصحاب المعالي..
السيِّدات، والسادة..
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته..
اسمحوا لي بدايةً أن أتقدَّم بوافر الشكر، وعظيم الامتنان لِمَن ساهَمَ، وأعدَّ لهذا المُنتدَى رفيع المُستوى، ولاسيما مُنظـَّمة المُجتمَع الآسيويِّ، ومعهد الشرق الأوسط، واليونسكو، وتحالف الآثار، والذين ساهَموا في إعداده ليُعرِّف العالم بجرائم الإرهاب العالميِّ تجاه آثارنا الحضاريّة، والثقافيّة.
لا يفوتني ابتداءً أن أرحِّب، وأثمِّن جُهُود مُنظـَّمة اليونسكو، وأمينها العامِّ السيِّدة (إيرينا بوكوفا) على الدعم الكبير، والتوعية العالميّة بجريمة تدمير آثار العراق، وأوصِل الشكر إلى الدول التي وقفت مع العراق، وساعدته في جُهُوده من أجل استعادة آثاره المنهوبة، وعلى وجه الخصوص ما بذلته الولايات المُتحِدة الأميركيّة.
أمعنتُ النظر كثيراً في عنوان المنتدى (الثقافة تحت التهديد)، ووجدتُ من الحكمة أن نـُفكـِّك مُركـَّبه.. في تصوُّري أنَّ الإرهاب يستهدف الآن تحطيم الماضي من الحضارة، والتاريخ، وإلغاء الحاضر، وتهديد المُستقبَل؛ لذلك أرحِّب، وأبارك ما قاله أحد السادة الوزراء: إنَّ هؤلاء يُعادون التاريخ. طبعاً الأمّة التي تفقد تاريخها تفقد ذاكرتها؛ ومن ثم لا تستطيع أن تـُواصِل حركتها، علاوة على أن تستأنف الحركة من جديد.
إنَّ ما يتعرَّض له التراث الثقافيُّ في العراق هو استهداف لمنابع الثقافة العالميّة.. ليس غـُرُوراً، ولا ادِّعاءً أنَّ العراق مهد الحضارة العالميّة؛ فمنذ 6000 سنة وذاكرة العراق تختزن لكلِّ الحضارات في العالم أنـَّها وُلِدَت في منطقة وادي الرافدين، وهؤلاء يستهدفون العراق؛ لأنـَّهم يُريدون أن يجتثوا أصول الحضارة، والإنسانيّة، والثقافة، وإشاعة روح الهمجيّة، والاقتتال.
حان وقت تبنـِّي المشاريع بدلاً من أن نسمع بين فترة وأخرى التنظيرات وهي مُهـِمّة بشرط أن تتحوَّل إلى مشاريع عمل.. شعبنا في العراق يلمس لمس اليد انتهاكات على الأرض، ويُقدِّم أولاده، وبناته، وأطفاله، وكُلَّ إمكانيّاته ضحايا.. في العراق يجب أن يُلمَسَ شيء بأنـَّه عمل جادّ، ورَدَّ فعل من قِبَل كُلِّ العالم.
مادام الإرهاب يستهدفنا جميعاً لابدَّ أن يكون ردُّنا ردّاً يُمثـِّلنا جميعاً ضدَّ الإرهاب.. الإرهاب مُعولـَم مُتعدِّد الانتهاكات حيث انتهاك للطفل، والمرأة، والشيخ، والكبير، والصغير، والثروة، والزرع، والماء.. كُلُّ شي مُنتهَك من قِبَل الإرهاب.. هو مُتعدِّد الانتهاكات، ومُتعدِّد المناطق، وهو ليس عراقيّاً، ولا آسيويّاً، ولا أوروبيّاً.. هُو مُعولـَم في كلِّ العالم؛ لذا يجب أن تتعدَّد رُدُودنا كُلـُّها، وتنتظم حول مكافحة هذا الوباء المُعاصِر الذي يستهدف تدمير العالم.
ما يتعرَّض له التراث في العراق على يد عصابات داعش من نهب، وتهريب ثقافيٍّ بمُختلِف أنواعه من مواقع أثريّة، ومتاحف، ومكتبات.. كُلُّ شيء بمنزلة خزين للثقافة، والمعرفة هو مُستهدَف من قِبَل داعش؛ لذا هو إصرار على تدمير الثقافة العالميّة؛ لأنـَّها تـُمثـِّل تنوُّع الثقافة الإنسانيّة، وأساس التعايش السلميِّ..
كُلُّ أثر من آثار الحضارة يُمثـِّل ينبوعاً إنسانيّاً مُشترَكاً؛ ومن ثم تستهدفه داعش؛ لتحطيم منابع الثقافة الإنسانيّة، وهذه خسارة لا يُمكِن تعويضها بالنسبة إلى العراق، وبالنسبة إلى البشريّة جمعاء؛ ممّا يقتضي التصدِّي لها من خلال تدابير فعّالة وفقاً لقرار مجلس الأمن المُرقـَّم 2199 الذي أصبح مُرتكـَزاً في المشروعيّة الدوليّة، والذي يُلزِم الدول الأعضاء بإعادة القِطـَع الأثريّة المسروقة إلى العراق، كما أنـَّنا نعتقد أنَّ الاستجابة الفعّالة لتهريب الآثار، والإتجار غير المشروع بها، وحمايتها يستلزم العمل بالمسارات الآتية، المسار الأوَّل: منع الأطراف الوسيطة من نقل الممتلكات الثقافيّة من دول المصدر الضحيّة إلى دول الوصول عبر تشديد الإجراءات القانونيّة، ومُطالـَبة الوسطاء، ولاسيَّما دُور البيع بالمزاد، والمُتاجـِرين بالتـُحَفِ الفنـّيّة، وجَامعي الأعمال الفنيّة، وأخصّائيِّي المتاحف بتقديم مُستندات، وشهادات المنشأ لمنع تهريب الممتلكات الثقافيّة العراقيّة. والمسار الثاني: أنَّ التأطير القانونيَّ للتعاون الإقليميِّ يُعَدُّ أساساً في منع تهريب الآثار من المناطق المُحتلة من قِبَل كيان داعش الإرهابيِّ ولاسيَّما تعاون دول الجوار من خلال تشديد الإجراءات في المنافذ الحُدُوديّة.
أعجبني كثيراً الأخ الذي بدأ بالندوة عندما سأل سؤالين مُحدَّدين: ماذا نفعل بالقانون الدوليِّ، وما الخطوات العمليّة؟
القانون ليس إنجيلاً، ولا توراة، ولا قرآناً إنـَّما هو من وضع البشر، ويُمثـِّل مُستوى مُعيَّناً للبشر، ويتطوَّر بتطوُّر البشر، وتطوُّر تجاربه؛ لذا من الخطأ أن نعدَّ بداية كلِّ قانون أنـَّه سيبقى ثابتاً كالجبل، وكعُمق المُحيطات إلى الأبد.. القانون يتبدَّل، ويتطوَّر؛ لذا يجب أن نأخذ من القانون ما يُواكِب، ونـُضيف إليه ما ينبغي أن يُواكِب تطوُّرات البشر مع هذه التطوُّرات الأخيرة؛ لذا يجب أن نـُعيد النظر بالقوانين الموجودة، ونعمل على جعلها تستجيب لتحقيق الأهداف الإنسانيّة المشروعة، وفي الوقت نفسه تستجيب للتحدِّيات الخطيرة.
التأطير القانونيّ يُساهِم في إيجاد التعاون الإقليميِّ، ولاسيَّما تعاون دول الجوار. وهنا يبرز دور ومُساهَمة الخبراء، والقانونيِّين الدوليِّين لوضع السُبُل، والطرق القانونيّة لحماية الآثار بخاصّةٍ أنَّ العالم يشهد توسُّعاً لهذه النشاطات الإجراميّة، ومع إدراك الدول كافة مسؤوليّتها الأخلاقيّة، والقانونيّة لحماية الآثار كجزء من الإرث الحضاريِّ.
المسار الثالث: إعادة تقييم النظام القانونيِّ الدوليِّ الذي يحكم حماية الإرث البشريِّ، والثقافيِّ بمُختلِف خصائصه الفريدة، وذلك من خلال ما يلي: تشجيع الدول على الاستمرار بعمليّات المُتابَعة، ورقابة القِطع، والموادِّ الأثريّة، والثقافيّة المنهوبة، أو المسروقة، وإعادتها إلى موطنها الأصليّ.
أعتقد أنَّ هناك عَلاقة بين الأثر الحضاريِّ، والتراثيِّ وبين تاريخ البلد كَمَا هي النبتة عندما تُجتَثُّ من أرض مُعيَّنة، أو أرضيّة زراعيّة مُعيَّنة، وتـُنقـَلُ إلى أرضيّة أخرى لا يُمكِن أن تـُعطي آثارها ونتائجها كما لا يُمكِن لأهرام مصر أن تكون لها قيمتها الحقيقيّة إلا في أرض مصر؛ لأنـَّها مُستوحاة من البيئة المصريّة، ومن التاريخ المصريّ. وقـُلْ مثل ذلك في الآثار العراقيّة في أهوار العمارة، والبصرة، والناصريّة. إنـَّها آثار تحكي، وتعكس شُعُورياً ولا شعوريّاً حضارة ذلك البلد، وتـُعطي إيحاءات جديدة، لكنها كُلـَّها مُستوحاة من تلك البيئة. جعل الالتزامات الدوليّة القانونيّة أكثر تفصيلاً بخـُصُوص الحكم القانونيِّ الذي تـُقدِّمه للقاضي الوطنيِّ، وتشجيع الدول على التوقيع، والانضمام، والتصديق على الاتفاقيّات الدوليّة النافذة بخصوص حماية الآثار، والإرث الثقافيِّ والحضاريِّ البشريِّ، وقد تكلـَّلت جُهُود العراق مع ألمانيا الاتحاديّة بدعم من مُنظـَّمة اليونسكو بإصدار الجمعيّة العامّة القرار المُرقـَّم 281 بتاريخ 28/5/2015 المُعنوَن (إنقاذ تراث العراق الثقافيِّ)، والذي أكـَّد على ما يلي: التأكيد على حماية التراث الثقافيِّ الإنسانيِّ من الهَجَمات التي يقوم بها داعش على التراث الثقافيِّ، ونصَّت الاتفاقيّة على عدِّه جرائمَ حرب، وأنَّ حماية، وصون التراث العالميِّ هو مسؤوليّة جميع الدول، والتأكيد على ضرورة مُحاسَبة مُرتكِبي تلك الجرائم، ومنعهم من الإفلات من العقاب العادل، وأخيراً أنَّ التحدِّي الذي نـُواجه الآن هو استرجاع القِطع الأثريّة المُهرَّبة، وإصلاح ما دُمِّر منها؛ حِفاظاً على التراث العالميِّ الذي يُجسِّد في الوقت ذاته هُويّة، وتنوُّع قِيَم المُجتمَع العراقيِّ.
لاشكَّ أنَّ العالم اليوم يُواجـِهُ هجمة حادّة، وشرسة، ومُحيوَنة من قِبَل داعش. كُلُّ الإجراءات القانونيّة يجب أن تـُتخـَذ، وكُلُّ جلساتنا يجب أن تعبق بحُضُور حقيقيٍّ، وفعليٍّ، ونـُريد نـُصرة الشُعُوب التي تضرَّرت، وهي ضحايا. والعراق في خط التماسِّ الأوَّل في هذه المُواجَهة. يجب أن نـُشعِر هؤلاء، وأكرِّر ما قلته في أكثر من مُؤتمَر: إنـَّهم عندما يُهدِّدون حُرمة بلد لا يجدون شعبه فقط على الأرض، بل يجدون شعبه، ويجدون شُعُوب العالم كلـِّه تقف إلى جانب ذلك الشعب.
حذارِ أن تتسرَّب إلينا ثقافة اليأس.. هؤلاء مرُّوا في التاريخ بعِدّة محطات، واندحروا، واندثروا، ونسِيَهم التاريخ، وبَقِيَت الشعوب حيّة، والمُجتمَعات حيّة..
شُعُوبناً ستنتصر، وإن أخذت بعض الوقت..
شكراً جزيلاً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..