|
كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ رئيس التحالف الوطنيّ العراقيّ وزير الخارجيّة بمُناسَبة الذكرى السنويّة لاستشهاد السيِّد مُحمَّد صادق الصدر
الاخبار | 22-08-2015
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. قال الله -تبارك وتعالى- في مُحكـَم كتابه العزيز: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104] في ساعة مُتأخـِّرة من ليل البارحة أبلغني الأخ العباديّ أنه اعتذر عن الحُضُور، وحمَّلني تحياته، واعتذاره لكم جميعاً، وقد يتغلب على العقبات، ويأتي ثانياً أهلاً وسهلاً ومرحباً به؛ لذا سأتحدَّث أصالة عن نفسي، ونيابة عنه. نقف وإياكم في رحاب الذكرى السابعة عشرة لاستشهاد مرجع كبير من مراجع المُسلِمين، ورائد من رُوّاد المنبر الإسلاميِّ الذي صدح بخطابه في صلاة الجمعة، وأضفى عليها طابعاً قيميّاً، وثوريّاً عندما خاطبَ الجماهير مُنطلِقاً من عُمق قلبه؛ لينفذ إلى عُمق قلوب المُتلقـِّين، وهو نفسه يتحرَّك مرّة أخرى في صُدُور الجيل المُعاصِر، وأنَّ دمه الذي هُدِر يتحرَّك في عُرُوق أبنائنا وبناتنا في كلِّ مكان.. السيِّد الصدر لم ولن يموت؛ لأنَّ الشهيد لا يموت: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169] هذه العنديّة الشأنيّة تمنح الشهيد مكاناً لا يرقى إليه أحد، فهو في عليائه يعيش أنس القرب الإلهيِّ الرائع، ويُطِلُّ من هناك ليُؤدِّي دوره كجزء من أمّة اُريدَ لها أن تكون شاهدة على مسيرتها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] لم يكـُن السيِّد الشهيد الصدر الثاني المرجع الأوَّل الذي استـُشهـِد، كما لم يكـُن الأخير في سلسلة الشهداء في إطار منظومة المراجع منذ زمن غابر وقديم في التاريخ وشَّحت الأرض بأزكى الدماء، ومزجت بين العلم، والعمل، والجهاد، والدم. كان السيِّد الصدر -قـدَّس الله نفسه الشريفة- والسيِّد محمد باقر الصدر المُفكـِّر الفذ، والمرجع الكبير، والأب قد سبقه في الشهادة. كان السيِّد الصدر ذو الخلق النبويِّ الرائع، والتنظير المُتميِّز قد خطَّ مسيرة ألقت بظلالها ليس على العراق فحسب، بل امتدَّ إلى حيث يمتدُّ الوعي الإسلاميُّ في كلِّ أرجاء العالم الإسلاميِّ، بل خاطب الإنسانيّة كلـَّها بفكره النيِّر هكذا. ومن يعُدْ إلى مسيرة المراجع يجدْ أنـَّها ماانفكت، ومابرحت أن تحضر في أروقة الفكر، وتتواجد في ميادين المُواجَهة تجمع بين العلم والعمل، وبين الجهاد والتضحية، وبين البساطة في الحياة، والارتقاء، والشُمُوخ في القِيَم.. كان السيِّد مُحمَّد مُحمَّد صادق الصدر أنموذجاً لذلك، وها هي مرجعـيّتنا اليوم تمارس دورها بكلِّ أمانة، وقد أطلـَّت من خلال الأحداث التي أفرزها ما بعد سقوط صدام المقبور، وعندما تعرَّضت لتحدِّيات كبيرة نجد أنـَّها وقفت في الأزمات، والمآزق لتأخذ دورها القياديَّ في توجيه الأمّة، واستقرار البلد. لا أظنُّ أنكم تنسون الموقف الذي وقفه سماحة المرجع السيِّد السيستاني -حفظه الله- في حادثة جسر الأئمة، وتفجير الإمامين العسكريَّين، وفي الأزمات اعتادت الأمّة وكأنـَّها على موعد مع المرجعيّة أن تقف سانداً مُرشِداً يحفظ وحدة العراق، وينأى به عن التمزيق، ويبتعد عن أيِّ بادرة تحاول أن تـُمزِّق أوصاله، وتقطع خـُيُوط نسيجه الاجتماعيِّ. كانت المرجعيّة صمام أمان؛ لأنـّها تحرَّكت في العراق في إطار الحكم، وفي إطار المُعارَضة، وإدارة الأحداث. ففي إطار الحكم أثبت الواقع أنَّ إدارة الأحداث فيه صُعُوبة، ورُبّما تكون صُعُوبة بالغة. فتوى المرجعيّة في الآونة الأخيرة عندما تعرَّض العراق إلى الابتزاز، واختلـَّت قاعدة المُجتمَع عندما استـُلِبت الموصل الحدباء كانت فتوى صريحة، وواضحة، أوّلاً: ركـَّزت على ضرورة حفظ الأمن، وعبّأت الشارع بفتوى الجهاد الكفائيِّ؛ حتى يهبَّ الشباب، ويتطوَّعوا للذود، والحفاظ على العراق، وفي الوقت نفسه ركـَّزت على ضرورة أن تبتعد عن أيِّ انتماءات جانبيّة من شأنها أن تـُحدِث الفرقة بين أبناء الشعب العراقيّ؛ لكي لا تنحو منحى طائفـيّاً، أو أيَّ منحى آخر عنصريّاً من شأنه أن يُضعِف الوحدة الوطنيّة؛ لذا أكـَّدت على ضرورة أن يتحرَّك صفُّ المُتطوِّعين في ظلِّ، وتحت خيمة القوات المُسلـَّحة العراقـيّة، وكذلك كان، وكذلك قوات الحشد الشعبيّ الذين أحيِّيهم من خلال هذا المنبر، وأقـبِّل جباههم وهم اليوم في خط التماسِّ الأوَّل يصنعون أسطورة الفوز.. أسطورة النجاح.. أسطورة التحدِّي.. أسطورة الانتصار في أصعب ظرف رُبّما يمرُّ به العراق المُعاصِر.. هؤلاء في خطهم الأوَّل لا يُدافِعون عن العراق فحسب إنما يُدافِعون عن كلِّ بلدان العالم، يُواجهون داعش الذي ينتمي عناصره إلى 80 دولة. فلم تبقَ قارّة، ولم يبقَ بلد، ولم تبقَ بلدة إلا وأفرز بعض عناصر السُوء فيها؛ ليأتوا إلى العراق، ويُحارِبوا، ويُقاتِلوا ضدَّ العدل، والحُرّيّة، وحُقوق الإنسان، وينتهكوا حُرمة العراق.. هذا هو حجم المعركة، وهذا هو حجم التضحية التي يُقدِّمها أبناؤنا أبناء القوات المُسلـَّحة من كلِّ مُكوِّناتهم؛ لذا على العالم أن يُدرك هذه الحقيقة، وقد دوَّيت بصوتي في منابر الأمم المُتحِدة، وجامعة دول العربيّة، والتضامُن الإسلاميِّ، ومُؤتمَر باندونغ، وفي كلِّ مكان صارَحتهم بأنَّ العراق يُقاتِل أصالة عن نفسه، ونيابة عنكم جميعاً. يحمي أعراضكم، ويحمي سيادتكم، ويحمي أراضيكم.. لا تملكون ما يملك الشعب العراقيُّ من تاريخ طويل مُضمَّخ بالدم، وإرادة قويّة تستطيع أن تـُقاتِل بنفـَس طويل في مثل هكذا حرب.. لا يُوجَد بلد في العالم يستطيع أن يُحقــِّق ما يُحقــِّقه العراقـيّون بقوّة إرادتهم، وطول نفـَسَهم من أجل سيادتهم. هذه المِحنة ومِحَن أخرى لا تـُعطي العراقـيِّين إلا قوة، وإصراراً على المُضيِّ بطريق النصر، وإقامة الدولة العادلة.. في هذا الوقت الذي يُواجهه العراقـيّون على الجبهة الداخليّة إذ يعيش ثورة إصلاح لظواهر الفساد التي دبَّت في أروقة الدولة، وطالما أسمعتُ من المنابر أنَّ الفساد في العراق تحوَّل إلى ثقافة، وأخطر شيء في الفساد أن يتحوَّل إلى ثقافة. في بعض أروقة الدولة، في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي بعض أروقة القضاء، وفي كلِّ مكان لابدَّ من ثورة لإعادة ترتيب هذه الأجهزة على أساس العدالة، والصلاح.. هذا الشعب الذي وقف، ويغمر الشوارع اليوم بهتافاته المُعبِّرة بمُجمَلها عن مُجمَل مَطالب شعبنا ينبغي أن تلقى الردَّ الإيجابيَّ، والتفاعُل إلى حدِّ التماهي؛ حتى نستطيع بعد أن أمَّن العراقيون خيمة المرجعيّة المعنويّة، وقاعدة الجماهير، وإرادة الحكومة الوطنيّة من أجل القضاء على الفساد؛ لذا سارَعَت الحكومة، وسارَعَ الأخ رئيس الوزراء لمُواصَلة عمليّة الإصلاح بالسرعة المُمكِنة، كما اصطفت القوى السياسيّة اليوم مُتناسِية خلافاتها.. هذا هو ديدن الشُعُوب الحيّة في الأزمات، وفي المِحَن، والابتلاءات، وفي الحُرُوب، والمعارك لا يعلو صوت فوق صوت الوحدة الوطنيّة.. نحن مع الإصلاح، ومع القضاء العادل، ومع مُحاسَبة المُقصِّرين، ومع مكافحة الفساد في كلِّ خندق، وفي كلِّ مكان لابدَّ أن نـُواصِل مسيرة الإصلاح شوطاً بعد آخر، ونمضي في طريق التنمية والعدالة خطوة بعد أخرى.. دول العالم التي مرَّت بمثل هذه المِحَن استطاعت، وعرفت كيف تصنع النصر من موقع التحدِّي، وأمّتنا ليست قليلة، ولا ضعيفة، ولا بعيدة عن هذا الديدن، وهذا هو الطريق الصحيح؛ لذا ما مرَّ بشُعُوب العالم، وأمَمهم عندما مرَّت فرنسا بمِحَن صنعت واقعاً فرنسيّاً، وهذه الجمهوريّة الإسلاميّة على الحُدُود مرَّت بظروف صعبة إلى الأمس القريب كان عليها حصار بعد حصار، وبين حصار وحصار حصار، لكنـَّها استطاعت أن تصل، وتـُحقــِّق نصراً باهراً. الأمم التي تملك إرادة قويّة، ورصيداً معنويّاً تعرف كيف تصنع النصر في ميادين المُواجَهة.. إنَّ شعبنا على وعي كامل في الوقت الذي يُواصِل مسيرته الإصلاحيّة، ويُعبِّر بشكل رائع واجتماعيٍّ على شكل تظاهرات، ويُعبِّر عن إرادته، وعن حُقوقه المهضومة لا نجد ذلك غريباً عن السياقات الديمقراطيّة، والإنسانيّة.. التظاهرات ليست مشروعة من الناحية القانونيّة فقط، وإنـَّما هي شرعيّة من الناحية الفقهيّة فصلاة الجمعة هي نوع من أنواع التظاهرات، وصلاة العيدين (الفطر، والأضحى) هي نوع من أنواع المُظاهَرات، واللقاءات الموسميّة في مكة في الحج، وفي شهر رمضان هي نوع من أنواع التظاهُر.. كلُّ شيء في الإسلام شعائر ومظاهر تتواشج فيها إرادات المُتصدِّين بقواعدهم الجماهيريّة.. لا غضاضة في أن نستقبل جماهيرنا وأحباءنا، ونقف إلى جانبهم خُصُوصاً أنَّ مَطالبهم مشروعة، بل مُعبِّرة عن إرادة المحرومين والمظلومين. الشعب العراقيّ يمرُّ اليوم بمحنة. ثالوث التحدِّي الذي يحكم بأضلاعه على وضع العراق الحاليّ بضلعه الأمنيّ، والاختراق الأمنيّ الذي كان أولى ضحاياه مدينة الموصل أمّ الربيعين، والضلع الثاني الحصار الاقتصاديّ الذي ضُرِب على العراق؛ بسبب انخفاض سعر النفط، والضلع الثالث اليوم وهو نـُضُوب الماء.. استنهضنا الدول المعنيّة بأنـَّها يجب أن تـُعيد النظر بسياساتها في طريقة التعامُل مع العراق.. العراق صاعد لا محالة، والظرف الذي يمرُّ به لا يزيده إلا إصراراً على المُضيِّ في هذا الطريق. إلى الأمس القريب طرَّز أبناؤنا وأعزاؤنا وبناتنا الأرض بأزكى الدماء.. نحن مع كلِّ التظاهُرات بلا استثناء؛ لأنـَّها تخدم شعبنا، وتـُحقــِّق أهدافنا، وتـُقرِّب من طموحاتنا.. نـُدرك جيِّداً أنَّ الشعب الذي يملك رصيداً معنويّاً كهذا، ويملك إصراراً، ووعياً يقرأ الأخطاء، وإرادة شجاعة يُعبِّر عنها.. هكذا شعب لن يموت. إنَّ أمّتنا لم، ولن تنسى مسيرة شهدائها على طول التاريخ، وستبقى أمينة على تاريخها، وحاضرها، وتصنع مُستقبَلها كما تـُريد. شعبنا العراقيّ شعب بطل، ولن يتنازل عن هذا الموقع.. شعبنا لا تهزُّه الشُكـُوك، والمخاوف.. نحن مع التغيير والإصلاح، ومَن يُرِد الإصلاح يشقّ طريقه حتى ترفرف رايات الإصلاح في دوائر الدولة بعد أن دبَّت فيها مظاهر الفساد من تعيينات على أساس القرابة، وتعيينات على أساس المُحاصَصة، وتعيينات على أساس قلب المعايير بأن يكون الكفوء مُتأخـِّراً في سلسلة المراتب. نحن بحاجة لصيحات شعبنا؛ ليُثقــِّف، ويُعبِّر، ويدعم حركة الإصلاح.. لا إصلاح بلا قاعدة جماهيريّة، ولا إصلاح بلا خيمة معنويّة يستظلُّ بها؛ لذا نعتقد أنَّ التظاهرات بشائر خير في آفاق المُستقبَل، وآفاق الحاضر، ورُبّما هذه التظاهرات لو كانت قد حصلت قبل هذا الوقت لاختصرت، واختزلت علينا زمن الصعود. أيُّها الإخوة.. العالم اليوم كلـُّه يُعاني من مشاكل، ونحن جزء من هذا العالم، وإرهاصات حادّة على المُستوى الداخليِّ، وعلى المُستوى الإقليميِّ، وعلى المُستوى الدوليِّ لكنَّ الأمم الحيّة تتغذى على المِحَن، وتأخذ منها؛ لتخرج من هذه المِحَن بأكبر ما تكون عليه. مرّة أخرى نقف وقفة إكبار وإجلال للمرجع صاحب المُناسَبة السيِّد مُحمَّد مُحمَّد صادق الصدر، ونـُحيِّي نتاجاته المُتعدِّدة فكراً، وخطاباً، وسُلوكاً، ودماً زاكياً، ونـُعزِّي الشعب العراقيَّ، وآل الصدر، ونـُعزِّي أخانا السيِّد مُقتدى الصدر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. العودة إلى صفحة الأخبار |
|