|
خزين الذاكرة
قراءات | 02-07-2015
من أكبر نِعَم الله -تعالى- على الإنسان نِعمة الذاكرة.. بها يخزن ما قرأه، وما سَمِعَ به، وما تعلمه؛ فبالذاكرة يعبُرُ المرءُ إلى التاريخ، وبالذاكرة يمتدّ إلى الجغرافية، وبالذاكرة يستحضر ممّا يعلم، وممّن يعلم.. حين تهطل عليه الذاكرة بمثل هذه العطاءات القبليّة "من قبل" لتجعل القبليّة الزمانيّة آنيّة عنده، وتجعل الأقصى الجغرافيَّ حاضراً بين يديه، وتجعل الآخر المُغاير لذاته ماثلاً أمامه بصورته المُشرِقة، وتكون الذاكرة محطة عُبُور؛ بها ينتقل الإنسان من حيث هو إلى حيث الآخر في حالة مُغايرة، أو زمنٍ مُغاير، أو مكان مُغاير، أو اتجاه مُغاير، أو ثقافة مُغايرة. مثل هذا العُبُور قد يكون عُبُوراً بنّاءً إذا عبقت الذاكرة بمحاسن ما تستحضر من مُجمَل صُوَر الخير عن الآخرين، وإن تخللتها بعض مُفرَدات السوء، أمّا إذا رزحت تحت تأثير نزعات الشرّ، وبقيت تراوح بالجزء السلبيِّ فقط فسيتحوَّل عنده كلُّ مَن يتذكّرهم إلى رُكام من السوء لا لشيء إلا لأنه هو سيّئ، وأنَّ منظاره القاتم لا يُريه إلا انعكاسات عالمه الداخليِّ صدق أمير المُؤمِنين -عليه السلام- وهو يقول: "الرجل السوء لا يظنّ بأحد خيراً لأنه لا يراه إلا بوصف نفسه لا تظنَّن بكلمة بدرت من أحد سوءاً وأنت تجد لها في الخير مخرجاً..." في كلِّ إنسانٍ قرأنا عنه، أو عاشرناه، أو سمعنا به جمع هائل من الصفات؛ وما لم يكن معصوماً، أو مَلَكاً فهو مُعرَّضٌ للخطأ، بل للخطيئة.. ومن الظلم أن نختزل شخصه بما ارتكب من أخطاء من دون النظرة المُتوازنة بين المُركـِّب الكليِّ لشخصيّته، ومُفرَداته الجزئيّة.. حين يكون مُركـَّبه الكليُّ خيِّراً نقدّر فيه ذلك، وإن تخلل مُركـَّبه بعض نقاط السوء فنحبّه بالكلِّ، ونكره سوءه بالجزئيّات.. نهى أمير المُؤمِنين (ع) بعض أصحابه في معركة صفين حين سمعهم يسبّون أصحاب معاوية قائلاً لهم: "أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر..." بعض الأحيان يكره الواحد منا بعض، أو إحدى صفاته من دون أن يكره نفسَه. كمَن يكره في نفسِه ضعفَ التزامِها بعدد ساعات القراءة، أو الالتزام بالمواعيد، أو المُواصَلة بالرياضة، أو التواصُل مع الرحم غير أنَّ هذه الظواهر تستدعيه أن يكرهها، ويبذل جُهده لمعالجتها.. "الذاكرة المُبارَكة" تتراكم فيها صُوَر الحُبِّ، والاحترام؛ كي تزدان بها، وتجعل صاحبها في حالة انجذاب مُستمِرٍّ لكلِّ مَن يتذكرهم، وينعكس ذلك الفعل التراكميُّ على جوارحه حين ينظر إليهم، أو يتكلم معهم، أو يتكلم عنهم بكلِّ ذلك تنعكس آثار البركة، ويُفترَض أن يكون هذا هو الأصل.. تبقى مجموعة من الناس ممَّن يكون الأصل فيهم هو السوء، وتشهد بذلك عليهم سلوكيّاتهم الشاذة، وجرائمهم المُستمِرّة، ونفاقهم المُتأصِّل، وغدرهم المُتربِّص، وتأليههم للذات: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ..)) هؤلاء الأصل فيهم هو السوء، وإن بدا عليهم بعضُ الحُسن.. صيانةُ النفس من النفاق، والتحكّم بمُدخَلاتها، ومُخرَجاتها حتى تستوي على الطريق تحتاج إلى رياضة روحيّة خاصة، وإلى أجواء اجتماعيّة مُتجاوبة، ومُحفـِّزة؛ حتى يتحقق الانسجام بين ما يحمل الإنسان في داخله مع ما يتفاعل في خارجه. عن رسول الله (ص): "اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ، وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ، وَلِسَانِي مِنَ الْكَذِبِ، وَعَيْنِي مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" يبقى للذاكرة حَرَمٌ لا ينبغي أن يُنتهَك، وحصنُ طهارةٍ لا يُسمَح أن يُلوَّث..}. |
|