|
كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيـّة في كلية الدفاع الوطنيّ بجامعة الدفاع الدراسات العسكريّة
الاخبار | 23-06-2015
قال الدكتور إبراهيم الجعفريّ: إنَّ العالم يمرُّ بعاصف من الحُرُوب بين فترة وأخرى، ويُخلـِّف تركة ثقيلة، وطويلة جدّاً وهذه الحُرُوب إنما حصلت للفراغ السياسيِّ الذي تركته الدبلوماسيّة. عندما يكون وعاء المشاكل، ووعاء الحُلول خالياً من العمل السياسيِّ والدبلوماسيِّ، مُشيراً إلى أننا نجد أنفسنا ونحن نسعى لبناء بلدنا، ونبرم علاقات مع دول العالم من الأقرب الجغرافيِّ إلى الأبعد الجغرافيِّ أمام مفهوم الأمن والسياسة. فلا أمن بلا سياسة، ولا سياسة بلا أمن. ولا نستطيع أن نتصوَّر دولة تحترم نفسها تتواجد في عالم تتصارع فيها الإرادات، وتتعدَّد فيه القوميّات، والطموحات ليس لديها جيش واقٍ، ودرع يصون حُدُودها، ويردّ غائلة الاعتداء. مُبيِّناً: أنَّ مفهوم الأمن الوطنيّ مُتسِع، ومرتبط بالسياسة، والاقتصاد، وبالاجتماع، وبالجانب العسكريِّ. ولا يُمكِن تجزئة مفهوم الأمن، أو جعله بعيداً عن هذه المفاهيم.. مُضيفاً: عندما تهتزُّ عُرى الأمن تتداعى كلّ مُؤسَّسات البلد، وكلّ الحقول المُنتِجة، وكلّ شيء يتداعى، مُعلـِّلاً بأنّ: الأمن مُرتبط بالاقتصاد، والقضاء، والجامعة، والفنون، والأمن العامّ، وكلّ شيء.. وفي الوقت نفسه أنَّ مفهوم الأمن ليس مفهوماً جامداً إنما هو مفهوم مُتحرِّك، ويجب أن نعتمد مبدأ الحركيّة في الأمن، ونتطلع إلى مفاهيم، وتعريفات، وثقافة، وآليّات، ونعكس ذلك في أكاديميّتنا؛ حتى نصوغ شخصيّة الجنديِّ الوطنيِّ. جاء ذلك خلال كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيـّة في كليّة الدفاع الوطنيّ بجامعة الدفاع للدراسات العسكريّة أمام طلاب الدورة الخامسة تحت عنوان (السياسة الخارجيّة وأثرها في الأمن الوطنيّ). وذكر الدكتور الجعفريّ: أنَّ الحرب اليوم حرب عالميّة؛ لأنها موجودة في كلِّ قارّة من دون استثناء، وفي القارّة الواحدة موجودة في كلِّ بلد من دون استثناء، وفي البلد الواحد موجودة في كلِّ بلدة من دون استثناء، وأهدافها ليست عسكريّة، ولا قواعد جوّيّة أبداً، وليست حرب جبال، ولا حرب شوارع، ولا حرب غابات إنما هي حرب أهدافها المدارس، والمستشفيات، والباركات العامّة، وإنسانها مُستهدَف، والضحيّة رجل كبير طاعن في السِنّ، وامرأة كبيرة، وشاب في عنفوان شبابه، والطفل. وأكّد الدكتور الجعفريّ أنَّ الحاجة إلى القوة العسكريّة ليست مسألة خافية على أحد إلا أنَّ الفرق أن يكون منطق العسكريّة من وحي قِيَمنا، ومبادئنا، وليس للعدوان، بل للصدِّ، وردِّ غائلة العدوان، ونحمي أنفسنا لذا فالمُقاتِل الذي لديه عقيدة عسكريّة يعرف موقع قدمه جيِّداً، ويعرف أنه يُعطي ما يعطي لأنَّ لديه عقيدة، ولا يربط بين حاضره، وتاريخه، ومُستقبَله، بل يربط بين دنياه وآخرته. وشدَّد معاليه على ضرورة أن يُثقـَّف أبناء القوات المُسلـَّحة على عقيدة عسكريّة، وأن نـُعزِّز قلب العسكريّ، وعقله بثقافة تجعله قويّاً غير مُتهوِّر، ومُتأنـِّياً غير جبان، ومُضحِّياً ليس من موقع الانتحار، أو الانهزام.
مُنوِّهاً بأنَّ قواتنا المُسلـَّحة لا تستطيع أن تعزل بين الأمن الداخليِّ، مثلما لا تفصل بين أمن المجال السياسيِّ، والاقتصاديِّ، والتعليميِّ، والتجاريِّ، والصناعيِّ، وكلِّ شيء، فتفصل بين الأمن الداخليِّ، والأمن الخارجيِّ، بل مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً. وقال معاليه: أمن العراق في الداخل ليس بمعزل عن أمن العراق في الخارج؛ لذا نجد أنفسنا يجب أن نمتزج مع الحالة الإقليميّة والعالميّة بالشكل الذي يحفظ لنا سيادتنا، ويحفظ خُصُوصيّاتنا من أن تتصدَّع. وفيما يخصُّ الحشد الشعبيّ أشار الدكتور الجعفري أنَّ كلَّ دول العالم عندما تعيش ظـُرُوفاً استثنائيّة تـُؤسِّس جيشاً تـُسمِّيه الجيش الرديف، والقوة المَدَنيّة. ومادامت نظريّتنا، وفلسفتنا في الجيش أنه جيش الشعب، وكلُّ الفصائل تنضوي تحت لواء القوات المُسلـَّحة وهي من الشعب، وإلى الشعب، وبواسطة الشعب؛ لذا فالحشد الشعبيّ ليس بديلاً عن القوات المُسلـَّحة، بل ينضوي تحت لوائها، ويُتمِّم عملها، وقد أثبت الآن أنه كلما يحصل التعاون أكثر فأكثر كانت النتائج مُشرِّفة. مُؤكـِّداً أنَّ خارطة العلاقات تواجه تحدِّيات ليست قليلة، وهنا يأتي دور المُبادِر، والسياسة الحكيمة التي تعتمدها الحكومة، وكيفيّة تذليل هذه العقبات، وإعادة بناء العلاقات على أساس المصالح المُشترَكة والمخاطر المُشترَكة، مُوضِحاً: أنَّ الجميع يشعرون أنَّ الخطر في العراق ليس خطراً عراقيّاً فقط، وأنَّ المعركة ليست عراقيّة-عراقيّة إنما هي عراقيّة مُعولمة، وعناصر داعش ينتمون إلى ديمقراطيّاتهم. مُشدِّداً على ضرورة العمل أن لا ينهدم ما نبنيه من علاقات، بل يجب أن يستمرَّ، ونقطف ثماره إلى مرحلة ما بعد داعش؛ حتى لا تكون علاقاتنا مع دول العالم ردّة فعل على وجود خطر في العراق، وأفصح بالقول: نـُريد أن تبقى العلاقات التي أقمناها مبنيّة على اقتصاد، وعلى ثقافة، وعلى استحقاقات التاريخ، والجغرافية، والمصادر الحيويّة. وفيما يخصُّ المُوافقة على تعيين سفراء الدول في العراق قال الدكتور إبراهيم الجعفريّ: إنَّ هناك شُرُوطاً في تعيين السفراء، ونحن نطلب السيرة الذاتيّة. مُعتبراً أن يكون بعضهم من خلفيّة عسكريّة شيء واردة؛ لأنهم يعتقدون أنَّ طبيعة التحدِّيات الموجودة على الأرض أمنيّة، وعسكريّة، مُوضِحاً: ما الذي يمنع العسكريَّ من أن يكون دبلوماسيّاً.. فأن يكون عسكريّاً فهذا شرف، وأن يكون أمنيّاً هذا شرف، مُبيِّناً: نحن من مبدأ الحرص على فتح العلاقات مع كلِّ دول العالم نـُريدهم أن يكونوا موجودين، لكنَّ هذا يُطبَّق بشُرُوط، منها: أن يكون غير مُتورِّط بعمل إرهابيٍّ، وحين تتوافر لدينا أدلة على تورُّطه بعمل إرهابيٍّ فنحن ضمن سياقاتنا الدستوريّة نـُفاتِح الدولة المعنيّة، ونطلب تحديد موقف.. قائلاً: لو كانت لدينا أيّة وثيقة عن أيِّ سفير مُتورِّط بعمل إرهابيٍّ فلن نستحي في أن نـُطالِب هذه الدولة، ونقول لهم: لا نريده.
وإلى حضراتكم النصَّ الكامل لكلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيـّة في كليّة الدفاع الوطنيّ بجامعة الدفاع للدراسات العسكريّة أمام طلاب الدورة الخامسة تحت عنوان (السياسة الخارجيّة وأثرها في الأمن الوطنيّ)
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. قال الله -تبارك وتعالى- في مُحكـَم كتابه العزيز: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)) [الصف:4] وقفة إكبار، وإعجاب، وتقدير لأبناء قواتنا المُسلـَّحة الذين طرَّزوا أرض العراق بدمائهم الزاكية.. عبر تاريخ طويل انطلق تأسيس الجيش العراقيّ عبر مسيرة طويلة مُضمَّخة بالدم، ومُفصَّدة بالعَرَق، وسجَّلوا أروع البطولات في كلِّ مكان حضروا فيه، فطالما حلـَّق نـُسُور العراق البواسل في سماء الأردن، وسورية، ومصر، وفلسطين، وعرفت عنهم كلُّ القيادات المُسلـَّحة غير العراقيّة شجاعتهم، واستبسالهم، وتضحياتهم في كلِّ مكان حلـُّوا فيه. عندما نتحدّث رابطين بين الأمن والسياسة فليس بِدَعاً من القول: هناك علاقة جدليّة تربط بين الأمن والسياسة، فلطالما ورَّطت بعض المواقف السياسيّة الفاشلة، والقرارات الفاشلة الشُعُوب، والأمم بحُرُوب، وطالما انبرى الكثير من الساسة الناجحين، والقادة الحكماء، فأخمدوا نار الفتنة، وقبلها تجنـَّبوا وُقوع البلد في الحُرُوب. رُبّما يكون من السهل أن تبدأ الحرب، ولكن ليس بنفس الدرجة من السُهُولة أن تنتهي الحرب، أو تـُنهَى الحرب. في هذه الأكاديميّة المُبارَكة، ومن وحي هذا العنوان نحن بأمسِّ الحاجة اليوم خُصُوصاً أننا نغوض غمار حرب جديدة لم يألفها العالم من قبل؛ لأنَّ عادة الحُرُوب التقليديّة أن تكون ذات صبغة مألوفة لدى الناس، وتتكرّر، ولكنّ حيثيّاتها، ومُبرِّراتها لا تخرج عن سياق الحُرُوب التاريخيّة المعروفة معركة على حُدُود، أو مع معركة على أرض، أو معركة لاسترجاع أنهار كنهر الراين في الحرب الثانية وغيرها، أمّا هذه الحرب فهي حرب جديدة، وقد سمَّيتها في 2004 و2005 (الحرب العالميّة)؛ لأنَّ العالميّة تـُستوحى إمّا من الأرض وهي غير مُحدَّدة بالعراق، ولا مُحدَّدة بآسيا، بل تتسع لكلِّ قارّات العالم، وإمّا بطبيعة الإنسان، ومن خلال خلفيّاته القوميّة فهي غير مُقتصِرة على المنطقة العربيّة، أو هذه القوميّات، أو تلك، أمّا عن الأهداف فأهدافها غير مُحدَّدة إنما هي تستهدف الإنسان، وتتوخـَّى قتله، ومُلاحَقته في أيِّ مكان كان؛ إذن نحن أمام حرب عالميّة ثالثة لا نقاش فيها. رُبّما تكون الأولى والثانية أتحفظ أن أسمّيها حرباً عالميّة؛ لأنها في الحقيقة حرب أوروبية-أوروبيّة، نعم.. دخلت أميركا الحرب الثانية في 7/12/1941، لكنَّ الحرب بين دول المحور ألمانيا، وإيطاليا، ودول التحالف بريطانيا، والاتحاد السوفيتيّ، وأميركا التي دخلت فيما بعد. نحن أمام حرب عالميّة حقيقيّة تقرع طبولها في مُختلِف مناطق العالم من دون استثناء؛ لذا لا مناص أن نـُعِدَّ العُدّة، ونـُثقـِّف شُعُوبنا. إنما انطلقتُ من الآية القرآنيّة الكريمة: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)) يقفون مع بعض، وليس وقوفاً تحاجُريّاً، بل تمتزج قلوبهم، وعقولهم، وأفكارهم، وعواطفهم، ويمتزج كلُّ ما يُساهِم في مُكوِّناتهم مُتراصِّين كأنـَّهم بنيان مرصوص، ولم تقـُل الآية القرآنيّة الكريمة ما جعلت السِرّ هو كثرة أبناء القوات المُسلـَّحة مع ما للكثرة من قيمة حقيقيّة، ولكن ركـَّزت على النوع، والأداء: ((يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا))؛ إذن نحن أمام حرب حقيقيّة، وهذه الحرب فـُرِضت علينا فرضاً، وتعلمون جيِّداً وأنا أقف في صرح علميّ شامخ، وعريق تمتزج فيه عوامل التاريخ والحاضر، وتمتزج فيه التجربة العراقيّة، ولا أقول فقط إنَّ الجنديّ العراقيّ بنته ميادين المعركة، وصاغته المُواجَهات في مُختلِف مراحل الزمن، والدراسات العسكريّة. هذا الجيش أسمِّيه (جيش الشعب) ورُبّما تختلف الجُيُوش مع بعضها في فلسفة الجيش، وعقيدته الجيش فقد يكون الجيش جيش الحاكم، ويستبسل من أجل الحاكم، ويُقاتِل من أجله، ويتحرَّك بإرادته. لعل كبرى دول العالم انخرطت في هذا الاتجاه كما كان الجيش النازيّ الذي استمدَّ مُقوِّماته، وقوته من خلال فلسفة النازيّة. نحن نختلف مع هؤلاء، ونعتقد أنَّ الجيش جيش الشعب، ويُدافِع عن المواقع السياديّة؛ لأنها مُختارة من قِبَل الشعب، ويُدافِع عن أيّة شخصيّة من شخصيّات البلد يتصدَّى لموقع ما؛ لأنَّ الشعب منحه هذا الموقع؛ ومن ثم انطلاقاً من الشعب، واستهدافاً خدمة الشعب تقف القوات المُسلـَّحة العراقـيّة بهذه الفلسفة. بين فترة وأخرى يمرُّ العالم بعاصف من الحُرُوب، ويُخلـِّف تركة ثقيلة، وطويلة جدّاً هذه الحُرُوب إنما حصلت للفراغ السياسيِّ الذي تركته الدبلوماسيّة عندما يكون وعاء المشاكل، ووعاء الحلول خالياً من العمل السياسيِّ والدبلوماسيِّ تملأه الحُرُوب ما لا يملأه السلم تملأه الحرب. لا تبقى المشاكل هكذا؛ لذلك نجد أنفسنا ونحن نطير على بناء بلدنا، ونبرم علاقات مع دول العالم من الأقرب الجغرافيِّ إلى الأبعد الجغرافيِّ بغضِّ النظر عن المسافات نجد أنفسنا أنَّ طائرنا لا يُمكِن أن يُحلـِّق ما لم يطِر على جناحين: الأمن والسياسة. لا أمن بلا سياسة، ولا سياسة بلا أمن. لا نستطيع أن نتصوَّر دولة تحترم نفسها تتواجد في عالم تتصارع فيها الإرادات، وتتعدَّد فيه القوميّات، والطموحات ليس لديها جيش واقٍ، ودرع يصون حدودها، ويردّ غائلة الاعتداء. لا نـُريد جيشاً نغزو به الآخرين كما ارتكب النظام المقبور حماقة احتلال الكويت، وورَّط العراق، وقبلها خاض العراق أطول حرب في القرن العشرين، وهي حرب الثماني سنوات التي شنها على الجارة إيران. لو كان الجيش العراقيّ يملك عقيدة، ويُريد ليس سهلاً أن ينكسر، والاحتلال الذي حصل في الكويت لو عنده عقيدة، ويُريد لم ينسحب بسهولة، لكنه كان يعلم أنه يمشي على أرض غير أرضه، ويحتل بلداً غير بلده، ويتعامل مع إنسان ليس إنسانه؛ لذ تدخل مسألة العقيدة، وليس فقط إرادة الحاكم حتى حين نـُدخِل المُقاتِل له مُفاعِلات ثقافيّة لا تبتعد عن أدائه البدنيِّ فهو قويّ بعقيدته، وقويّ بثقافته، ووعي أهدافه قبل أن يكون قويّاً بذراعه، وسلاحه.. كما يقول المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان فهو أوَّل وهي المحلّ الثاني الثقافة والإيمان بالأهداف تجعل المُقاتِل يحمل روحه على راحة كفه، ولا يتقبَّل أن يُورَّط بحرب هو غير مُؤمِن بها. عندما نبدأ بمفهوم الأمن الوطنيّ فهو مفهوم مُتسِع، ليس مفهوماً مُتكلـِّساً، ومحدوداً، وأقصد بالاتساع أنه مرتبط بالسياسة، والاقتصاد، وبالاجتماع، وبالجانب العسكريِّ. لا يُمكِن تجزئة مفهوم الأمن، وجعله بعيداً عن هذه المفاهيم. عندما تهتزُّ عُرى الأمن تتداعى كلّ مُؤسَّسات البلد، وكلّ الحقول المُنتِجة، وكلّ شيء يتداعى، الأمن مرتبط بالاقتصاد، والقضاء، والجامعة، والفنون، والأمن العامّ، وكلّ شيء، وفي الوقت نفسه أنَّ مفهوم الأمن ليس مفهوماً جامداً إنما هو مفهوم مُتحرِّك، وأقصد بالحركيّة أننا لا نستطيع أن نسبغ عليه طابعاً تقليديّاً؛ فقد تكون هناك أمور مُفاجـِئة لم تكن محسوبة، ولا معروفة في السياقات السابقة؛ لذا يجب أن نعتمد مبدأ الحركيّة في الأمن، ونتطلع إلى مفاهيم، وتعريفات، وثقافة، وآليّات، ونعكس ذلك في أكاديميّتنا؛ حتى نصوغ شخصيّة الجنديِّ بمفهومه الأعمِّ من القائد العامِّ للقوات المُسلـَّحة إلى كلِّ المراتب بالشكل المطلوب. وعندما نتحدَّث عن الأمن لا نتحدَّث عن أمن كماليٍّ، بل إنه من الضرورات.. الأمن مُقدَّم على كلِّ الأمور الأخرى. قد تستطيع الناس أن تتقبَّل قطع الكهرباء على أهمّيّتها، وتستطيع الاستغناء عن بضاعة من السوق على أهمّيّتها، ولكنها لا تستطيع أن تصبر عندما يهتزّ الأمن، وتـُقرَع طبول خُصُوصاً عندما تكون الحرب كحرب الإرهاب التي هي ليست تقليديّة. أذكـِّركم بالحرب العالميّة الأولى عندما خسر العالم 15 مليوناً غالبيّتهم عسكريّون، والأقليّة من المَدَنيِّين، والحرب العالميّة الثانية ليست كذلك خسِرَ العالم عدداً كبيراً جدّاً إذ خسِرَ 50 مليون إنسان كانت مُتناصِفة من العسكريِّين والمَدَنيِّين، وأمّا الحرب الثالثة التي نحن فيها الآن (حرب الإرهاب) فغالبيّتها من المَدَنيِّين. اضرب لكم مثلاً: إلى عام 7/12/1941 لم تكن أميركا قد دخلت الحرب، ونأت بنفسها 39 يوماً عن بدء الحرب إلى أن تورَّطت القوات الجوّيّة العسكريّة اليابانيّة، فقصفت بيرل هاربر، وما كان على أميركا إلا أن تدخل. ليس بقرار بل بواقع التوريط دخلت إلى الحرب؛ إذن لم تكن في البداية عالميّة إلى هذه ساعة دخول أميركا مُضطرّة للدفاع عن نفسها في زمن (روزفلت) الذي مات في الحرب العالميّة الثانية في 1945، وكما تعلمون هو أطول مَن حكم في تاريخ أميركا من 1933 إلى 1945، وجاء من بعده ترومن، والحرب بعد لما تنتهِ، وفي زمن ترومن اكتشفت القنبلة الذرّيّة، واجتمع الرؤساء ستالين، ورزفلت، وتشرشل في غرفة مُغلقة كما يقول تشرشل في مُذكـَّراته (حياة أمّة في كفاح رجل) يقول: قرَّرنا لأسباب إنسانيّة أن نستخدم هذا السلاح الجديد، واستخدموا هذا السلاح اعتقاداً منا أننا بهذا السلاح نستطيع أن نحسم الحرب، ونـُوقِف الخطر النازيَّ. النازيّة كانت قد سقطت في ذلك الوقت، وكانت اليابان لاتزال تـُقاوم، فقرَّروا ضرب مدينتين هما هيروشيما، ونكازاكي، وانتهى كلُّ شيء؛ إذن هكذا حُرُوب تبدأ بسيطة وسرعان ما تتسع. الحرب اليوم حرب عالميّة؛ لأنها موجودة في كلِّ قارّة من دون استثناء، وفي القارّة الواحدة موجودة في كلِّ بلد من دون استثناء، وفي البلد الواحد موجودة في كلِّ بلدة من دون استثناء، وأهدافها ليست عسكريّة، ولا قواعد جوّيّة أبداً، وليست حرب جبال، ولا حرب شوارع، ولا حرب غابات إنما هي حرب أهدافها المدارس، والمستشفيات، والباركات العامّة، وإنسانها مُستهدَف، والضحيّة رجل كبير طاعن في السِنّ، وامرأة كبيرة، وشاب في عنفوان شبابه، وطفل كما قتلوا طفلاً عمره أقلّ من سبعة أشهُر. لماذا لا نـُسمِّيها عالميّة، وما استثنت إنساناً مُعيَّن، واستخدمت كلَّ الأساليب البشعة، فأضفت على نفسها صفة، وبُعداً عالميّاً؛ لأنها استهدفت الإنسان كله؛ لذا نحن وجَّهنا خطابنا في كلِّ منبر من المنابر التي اعتليتها سواء في الأمم المُتحِدة، أم جامعة الدول العربيّة، أم التضامن الإسلاميّ في بانكوك، أم الآسيوافرويّ، قلت لهم: حاربوا الإرهاب، وساعدونا قبل أن ينتقل الإرهاب إلى أراضيكم. العراق ليس البلد الأوَّل، وقد لا يكون البلد الأخير. نحن لسنا أوَّل دولة بدأ منها الإرهاب، فقد كان قبلها في سورية، وقبلها كان في أفغانستان، وقبلها كان في أميركا. القرن الحادي والعشرين كان مطلعه عمليّات إرهابيّة دكـَّت صُرُوح العاصمة السياسيّة واشنطن، والعاصمة الاقتصاديّة نيويورك، ما بدأت في العراق فقط. هذه حرب تمتدّ، وستمتدّ، وبعد بضعة أيام حصلت عمليّة في البرلمان الكنديّ، وهاتفت وزير الخارجيّة الكنديّ، وقلتُ له: لم أكن أعلم أنَّ الذي قـُلته في نيويورك يحصل بهذه السرعة، وفي بلدكم كنداً دولة ديمقراطيّة. لعلي أعتبرها من أعرق الديمقراطيّات في العالم أن لم تكن الأعرق عندما قـُتِل ثلاثة من حُرّاس البرلمان، وذهب إلى فرنسا كما تسمّي نفسها دولة حقوق الإنسان، والذين ارتكبوا هذه الجرائم هم من أصول جزائريّة تدرَّبوا ميدانيّاً في العراق، ويحملون جنسيّات فرنسيّة؛ إذن نحن أمام إرهاب مُعولـَم، مُركـَّباته البلد الذي يـُعِدّه، ويـُدرِّبه، ويرسم الأهداف، والذي يُموِّله بالمال، والذي يخطب. كلُّ هؤلاء يدخلون في المُركـَّب الإرهابيِّ. اكيد عندما نتعاطى مع هذه الظواهر يجب أن نتعاطى من زاويتين، الأولى: التعاطي الميدانيّ، والتجاوب مع التحدّيات الميدانيّة بقوة ميدانيّة رائعة، وبأبطال أشاوس، واستعداد للاستبسال برجال لا يعرفون التردد مُقابـِل الدفاع عن وطنهم، وشعبهم، وهذا هو لدى القوات المُسلـَّحة، والزاوية الثانية يجب أن نضع المُعادِل الثقافيَّ لهذه الثقافة التخريفية التي تجعل شباباً بعمر الورود صُدُورهم مملوءة بالحقد، والكراهيّة، ولا تعرف إلا القتل، وتجده حتى اللحظة الأخيرة أغلق عقله، ولا ينفتح، ولا يُحاور، ولا يسأل ويُجَاب، أو يُجيب عندما يُسأل، بل يُجيد القتل فقط. رُبّما في التاريخ دورة كهذه الدورات من الانغلاق، والغيتو الثقافيّ فقد كان الخوارج في التاريخ يشبهون هذه الحالة، هم يمشون للقتل فقط. وإحدى القصص وهي معروفة في التاريخ حصلت مع الخوارج عندما مرّوا في طريق ما، ودخلوا بستاناً ليأكلوا من تمرها مرَّ واحد من المُسلِمين فقرَّروا قتله، وقتل زوجته، وكانت حاملاً وبقروا بطنها، وذبحوا جنينها وصاحب البستان واقف بعيداً يتفرَّج، فظلوا جالسين ينتظرون. سألهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا له: ننتظر أننا أكلنا كم فردة تمر، فقال لهم تقتلون الناس الأبرياء، وتبقرون امرأة حاملاً، وتذبحون جنينها وما تتردَّدون به، وتتردَّدون بأكل تمرة؛ إذن هذه ثقافة، ونحن في الوقت الذي نمدُّ أذرعنا العسكريّة لمُواجَهة هؤلاء يجب أن نتثاقف، ونتبادل الثقافة. ما الثقافة التي صنعت هؤلاء. كلُّ شيء من حولكم تعبير عن ثقافة. الحاجة إلى القوة العسكريّة ليست مسألة خافية على أحد إلا أنَّ الفرق أن يكون منطق العسكريّة من وحي قِيَمنا، ومبادئنا، وليس للعدوان، بل للصدِّ، وردِّ غائلة العدوان، ونحمي أنفسنا: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).. يأذن الله لكم أن تـُقاتِلوا لأنكم ظـُلِمتم، ولسنا نحمل بشائر الاعتداء، والاحتلال، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ؛ لذا فالمُقاتِل الذي لديه عقيدة عسكريّة يعرف موقع قدمه جيِّداً، ويعرف أنه يُعطي ما يعطي لأنَّ لديه عقيدة، ولا يربط بين حاضره، وتاريخه، ومُستقبَله، بل يربط بين دنياه وآخرته. يجب أن نعزز قلب العسكريّ، وعقله بثقافة تجعله قويّاً غير مُتهوِّر، ومُتأنـِّياً غير جبان، ومضحياً ليس من موقع الانتحار، أو الانهزام؛ لذا قلتُ في بيت من الشعر في مدح العراقيِّين: عراقيّ تحدَّر من بـــــــــــلاد تشامخ فيه نخلاً والجبــال وأنجبت النساء به رجــــــالاً تصاغر دون هِمّته الرجال لقد طالوا على هام الرواسي بــــــــــــأنهم بلا حدّ طوال تراهم يركبون على المـــنايا كمثل الخيل يركبها الرجال يأتي على المنيّة مثل فارس يركب الحصان بلا تردُّد، وقد عوَّدنا أبطالنا الأشاوس عبر التاريخ أنهم كبار ليس بثقافتهم الأكاديميّة فقط، ولكنَّ الساحة تصقل المواهب، والاستبسال والتضحية تجعل المُقاتِل قد حسم أمره. أذكر قصة قفزت إلى ذاكرتي الآن عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما سمع أنَّ أحد الجُنـُود قاتل في إحدى المعارك قتالاً شرساً، وقتل عدداً كبيراً، فبعث عليه -كانت عادتهم إذا دخلوا على الخليفة يسحبون السيف من غِمده- قال: فليدخل عليَّ بسيفه. دخل، سأله: ما اسم هذا السيف؟ قال: صمصام يا حضرة الخليفة. قال له: وما الصمصام؟ قال له: سيف من السُيُوف اليمنيّة. قال له بهذا السيف قتلت هذا العدد؟ ردَّ عليه قال: يا أمير المُؤمِنين تسال عن السيف، ولا تسأل عن اليد التي حملت السيف. يجب أن يُثقـَّف أبناء القوات المُسلـَّحة على عقيدة عسكريّة ليس من وحي العُقدة كحرب البسوس التي دامت أربعين سنة، وقـُتِل فيها ألوف الشباب بين بني بكر وبني تغلب، قيل بسبب طير، وقيل بسبب ناقة قتلها شخص في أرض القبيلة الثانية، وكـُتِبت فيها دواوين من الشعر. القوة مطلوبة في كلِّ بلد. إذا كان فريدريك الكبير قال مقولته المعروفة: الدبلوماسيّة بلا قوة كالعزف بلا وتر. والإمام علي -عليه السلام-: يقول الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر. من مسألة الأمن ننتقل إلى الدبلوماسيّة... كثيرون عرَّفوا الدبلوماسيّة بأنها أسلوب التعامُل. كلمة (دبلوماسيّ) أخذت من عمليّة طيِّ الورقة، ثم تطوَّر المفهوم هكذا شأنه شأن المصطلحات التي تتطوَّر بمُرُور الزمن، فصار مجموعة المفاهيم، والقواعد، والإجراءات، والمراسم، والمُؤسَّسات، والأعراف الدوليّة التي تنظم العلاقات بين الدول والمُنظـَّمات الدوليّة، والممثلين الدبلوماسيِّين؛ بهدف خدمة المصالح العليا للدول. هذا تعريف سريع عن الدبلوماسيّة، ولننتقل من التنظير إلى الجانب العمليّ: نحن تبنـَّينا نظريّة دبلوماسيّة، وهي: الانفتاح، والمُبادَرة، والبناء. نـُبادِر، ونبني لا لنهدم، ونـُقاطِع. تعرفون أنَّ العراق كان يُعاني من حالة الاختناق الإقليميِّ، والدوليِّ في العام الماضي، وتعلمون أنه كان يُعاني من عُقدتين، عُقدة الانقطاع الذاتيِّ، وعُقدة المُقاطعة الخارجيّة، فصار بين فكي كمّاشة؛ لذا اعتمدنا مسألة الثقة بالنفس المُستمَدّة من ثقتنا بالله -تبارك وتعالى- بأننا يجب أن نـُبادِر، فوضعنا خارطة طريق لنا بأنه كيف نـُعيد العلاقات بدءاً بالجوار الجغرافيِّ، وانتقالاً إلى الجوار الإنسانيِّ، فلم يعُد العالم اليوم عالم الأقرب جغرافيّاً بل عالم الأقرب إنسانيّاً، وسياسيّاً. رُبَّ دولة قريبة جغرافيّاً بعيدة إنسانيّاً، وسياسيّاً عنا، ورُبَّ دولة بعيدة جغرافيّاً قريبة منا سياسيّاً، نحن نعيش عصر عولمة من نوع مُعيَّن.. العالم يتطوَّر، والدول تتسابق، ويجب أن نـُعيد مفهوم النظر بالجوار جوار مُحترَم، وفيه استحقاقات، ويُوجَد جوار جغرافيّ، وجوار سياسيّ، وجوار أمنيّ، واقتصاديّ، كما أنَّ جيولوجيتنا (أرضنا) ارتبطت بجيواقتصاديّ، فأنا أعتقد أنه يُوجَد جيوثقافي. تتشابه ثقافات رغم التباعُد الجغرافيِّ بينها. عالم اليوم تمتزج فيه هذه الأمور كلها؛ لذا يجب أن ننطلق بثقة، ونتعامل بمُبادَرات، وقد بدأنا بدول الجوار، وانتقلنا إلى دول العالم. أكاد أقول: أغلب دول العالم التقيناها إن لم تكن كلها في الأمم المُتحِدة في الشهر التاسع من العام الماضي رُبّما أكثر من 50 وزير خارجيّة، وكانت نظريّتنا واضحة، ونمشي على هدى من أمرنا، وأتذكر اللقاء الذي حصل في مجلس الأمن كان مثار إعجاب العالم كله من دون استثناء، حتى إنَّ رئيس المُؤتمَر التقيته بعد أن ألقيتُ كلمتي، واستمعت إلى كلمات الآخرين بعث لي أحد الأشخاص، وقال: مُمكن أن ألتقيك بضعَ دقائق وحدنا؟ قلتُ له: لا مانع. والتقيتُ به وهو رئيس الاجتماع، ورئيس المُؤتمَر قال لي: أنا راضٍ على الإسناد. كلّ وزراء الخارجيّة الذين تكلموا، وبعضهم رؤساء كان حديثهم داعماً للعراق، وينفي عن الإسلام صفة الإرهاب. أوّل ما يتحدَّثون يقولون: داعش اسمها دولة إسلاميّة، ولكنَّ الإسلام منهم بريء، وهم غير مُسلِمين، ويقولون: إنَّ العراق يُواجه حرباً نيابة عنا، ويجب أن نقف إلى جانبه، فقال: هل أنت راضٍ على المُؤتمَر؟ قلت له: إلى حدٍّ ما. قال: أحبُّ أن أعطيك انطباعي، قال: في حياتي لم أجد الأمم المُتحِدة، ومجلس الأمن يشهد اصطفافاً دوليّاً لصالح دولة مُعيَّنة كما يشهده اليوم لصالح العراق. تعلمون جيِّداً أننا نـُحارب على جبهتين.. نـُحارب أصالة عن أنفسنا، وعن عِرضنا، وعن نسائنا، وعن حرائر العراق، وأطفال العراق، ومُمتلكات العراق، وسيادته، وكرامته، وأنَّ الجنديَّ العراقيَّ قوة في الاستبسال غير محدودة، ولكن نـُقاتِل نيابة عن العالم؛ إذ إنَّ عناصر داعش من أكثر من 62 دولة جاؤوا إلى العراق ما الذي يمنعهم عندما يعودون إلى بلدانهم من أن يُمارسوا نفس العمل خُصُوصاً أنَّ الأسلحة التي لديهم ما تحتاج مطارات عسكريّة، ولا تحتاج مدفعيّة، وأسلحة ثقيلة فكلُّ ما في الأمر هو موادّ مُتفجِّرة تـُصنـَع صناعة بسيطة، والأهداف مبثوثة وهي رياض الأطفال، والمعابد، والمطاعم، والباركات؛ إذن مَن الذي يمنع هؤلاء من أن يُمارسوا هذا العمل في كلِّ بلد من بلدان العالم. استيقظ العالم بعد أن كان سادراً في سُبات عميق، وقلنا لهم منذ وقت، ومن يرجع إلى تاريخ 2004 و 2005: إنَّ هذه حرب عالميّة، وقلنا: الإرهاب لا دين له، ولا مذهب له، ولا وطن له. فلا تستطيع أن تقول: الإرهاب أفريقيّ، أو آسيويّ، ولا تستطيع أن تقول هذا ليبيّ، أو تونسيّ، أو جزائريّ، أو سعودي. الإرهاب خروج عن الطبيعة البشريّة التي الله خلقها، وقد حلـَّلناها ثقافيّاً بأنَّ الإرهابيَّ لديه ثقافة انتحار، وثقافة حقد، وكراهيّة، واستعداد للموت، لكنَّ هذه الثقافة سبقتها ثقافة أخرى، هي: ثقافة الاستياء، والشُعُور بالظلم، حتى تراه يقول لك: أنا أنتمي إلى بلدان غنيّة جدّاً، وأعيش فقيراً، والعالم اليوم يُساهِم، ويُصوِّت على الحكومات، وأنا تـُفرَض عليَّ الحكومات فرضاً؛ فتتولد لديه حالة من الاستياء والسخط، وتلقفته أيدي السوء خلف الستار، فتـُوجِّهه الوجهة التي تـُريد. هناك نظريّة مُعتمَدة في الشرق الأوسط، وهي: إقلاق المنطقة من أجل بلد واحد. نظريّة تعرفونها؛ لذا انخرط هؤلاء بدفع من أصابع السوء من خلف الستار. قواتنا المُسلـَّحة لا تستطيع أن تعزل بين الأمن الداخليِّ، مثلما لا تفصل بين أمن المجال السياسيِّ، والاقتصاديِّ، والتعليميِّ، والتجاريِّ، والصناعيِّ، وكلِّ شيء، فتفصل بين الأمن الداخليِّ، والأمن الخارجيِّ، بل مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً. أمن العراق في الداخل ليس بمعزل عن أمن العراق في الخارج؛ لذا نجد أنفسنا يجب أن نمتزج مع الحالة الإقليميّة والعالميّة بالشكل الذي يحفظ لنا سيادتنا، ويحفظ خُصُوصيّاتنا من أن تتصدَّع. العراق بكامل حجمه، وكلِّ مُكوِّناته يجب أن يُؤسِّس قوات مُسلـَّحة تقوم على عقيدة، ونظريّة، وفلسفة عسكريّة. واجهنا في جامعة الدول العربيّة مُبادَرة ما كان لدينا من إشكال على أصلها. لابدَّ أنكم سمعتم بتكوين قوة عسكريّة مُشترَكة، لكنَّ الغريب أنَّ القوة العسكريّة طـُرِحت في جامعة الدول العربيّة، ونحن لم نسمع بها إلا على طاولة الجامعة العربيّة، فصدحتُ بصوتي، وقلتُ لهم بكلِّ صراحة: أنا أتحفـَّظ على هذا الطرح، وليس لديَّ مُشكِلة من حيث المبدأ على تشكيل قوة عسكريّة مُشترَكة، لا مُرتجَلة. اسألوا أجواءكم؟ ستجدون نـُسُور العراق تحلـَّقوا فيها.. اسألوا الكثير من قادتكم العسكريِّين، بل قادتكم السياسيّين ستجدون أنهم خِرّيجو الأكاديميّة العراقيّة، وجيش العراق الذي نيـَّف تأسيسه على 100 سنة.. لماذا لا يعرف العراق بالمُبادَرة سلفاً؟ ليس لدينا إشكال على أن تتشكـَّل قوة عربيّة مُشترَكة، لكنَّ إشكالنا أنه لا يصحُّ أن يُطرَح على العراق هنا على الطاولة بشكل مُرتجَل. العراق لا يُخبَر على الهامش، بل يُخبَر في العمق، وفي المتن، وفي أوَّل الطريق؛ حتى يُستفاد منه بخاصة أنه خاض غمار حُرُوب، ويمتلك مُقوِّمات مُمتازة، وهو حاميكم، وقلت لهم استفيدوا من تجربة الاتحاد الأوروبيّ إذ كانت دول أوروبا مُمزَّقة، وكانت بينها حُرُوب طاحنة، ووحَّدت نفسها، وانتهت إلى الاتحاد الأوروبي، وعِدّة قوميّات، وعِدّة ديانات، ومُتباعِدة جغرافيّاً، فطارت على جناحين: السوق الأوروبيّة المُشترَكة والناتو. لماذا لا نعمل سوقاً عربيّة مُشترَكة.. لماذا تتبدَّد خيرات البلد العربيِّ.. لماذا لا ينعم بها ابن البلدان العربيّة الأخرى كما حصل في أوروبا. انظروا إلى السيارات الألمانيّة المرسيدس، وبي أم دبليو تتحرَّك في شوارع العواصم الأوروبية، والحليب ومشتقاته في الدنمارك تتحرَّك في كلِّ السوق الأوروبيّة المُشترَكة. لماذا لا نـُوحِّد سوقنا، واقتصادنا ونحن بلد النفط، والزراعة، والأنهر المُتعدِّدة، وثلثا احتياطيّ العالم عندنا.. لماذا لا نـُوحِّد أنفسنا، وفي الوقت نفسه نتحرَّك على قوة عسكريّة كدرع يحمي، ويردُّ غائلة الاعتداء علينا مثلما فعلت الناتو وهو الجناح الثاني الذي طارت به أوروبا، واتخذت قراراً بأنَّ الاعتداء على أيِّ بلد أوروبيّ يُعَدُّ اعتداءً على كلِّ الدول الأوروبيّة.. عندما قضم هتلر جيكوسلوفاكيا اهتزّت عرى الحكم لرئيس وزراء بريطانيا تشامبرلين عام 1939، وقال له البرلمان: لستَ رجل حقّ، ولا تفيدنا، وسوف نسحب الثقة عنك، فذهب إلى ألمانيا، وجلس مع هتلر، قال: عملت لنا من مُشكِلة، فوضع هتلر الإنجيل أمامه، وأقسم له بأن لا تهدَّد أي دولة بعد جيكوسلوفاكيا، فرجع، وخطب في البرلمان قال: التقيتُ بهتلر، وقال لا يُوجَد شيء آخر. وبعد أيام احتلَّ بولندا بمسرحيّة هزيلة حين لبس مجموعة ألمان زيّاً عسكريّاً بولنديّاً، ووضعهم على الحُدُود، وقتلوهم، فقال جُنود بولنديّون جاؤوا يتسللون، فقتلهم انعكس على بريطانيا. انظر إلى الترابُط رغم البُعد الجغرافيِّ، ورغم الاختلاف في الأنظمة السياسيّة انعكس سياسيّاً على بريطانيا، واستبدل بولسن تشرشل تصدَّى لأنه كان وزير الحربيّة في الحرب العالميّة الأولى.. هكذا تترابط السياسة بالدبلوماسيّة. نحن نحتاج دبلوماسيّة عالية بغضِّ النظر عمّن يرأسها؛ لأنها مُهمّة بالنسبة إلينا جميعاً. نـُريد دبلوماسيّة تكشف لنا النقاب عن بطولات القوات المُسلـَّحة العراقيّة. البعض عمَّموا الأخطاء التي حصلت في الموصل، وأعطوها أكثر من حجمها. لا نـُنكِر وجود بعض الفساد في هذه المُؤسَّسة، أو تلك، ولكن لا تتعسَّف في الحكم على مُؤسَّسة كالمُؤسَّسة العسكريّة في العراق ذات التاريخ الطويل، والتضحيات الضخمة فحتى في الموصل يُوجَد أبطال، وشهداء، ومُستبسِلين، ومنهم الشهيد محمد الكرويّ وغيره قدَّموا أرواحهم؛ فليس كلُّ العرب كانوا عنتر بن شداد العبسيّ، ولا كلّ روما كانت قيصراً؛ لذا نشأ مصطلح الجنديّ المجهول لكثرة الأبطال في وقت ما كلّ أمّة فيها بطل، أمّا اليوم فالجُيُوش فيها أبطال كثر. الدبلوماسيّة العراقيّة نشطت من أجل أن تـُجلـِّي الوجه المُشرق عن القوات المُسلـَّحة العراقيّة، والأخلاقيّة العالية التي يتمتـَّع بها أبناء القوات المُسلـَّحة في التعامُل حتى مع داعش، وقلنا لهم: داعش يستخدمون أسلوب الشاحنات المُلغـَّمة بأطنان من الـ(تي أن تي)، والمُتفجِّرات، ويجعلون الناس دُرُوعاً بشريّة في بعض البُيُوت المُحتمَل الانسحاب عنها؛ وحين تأتي القوات المُسلـَّحة العراقيّة ترتطم بدرع إنسانيٍّ أطفال، ونساء.. ماذا يعمل الجنديّ العراقيّ في هذه الحالة؟ وضعناهم أمام هذه الأرقام، وتكلمنا على الحشد الشعبيّ ردّاً على من يُعبِّرون عنه بأنه مليشيات، وحشد شيعيّ، وحشد إيرانيّ.. هذه المُلابَسات كنا ننقل لهم أنَّ الحشد الشعبيَّ من مُختلِف مناطق العراق، وأوَّل شهيد قدَّمه الحشد الشعبيّ من الموصل، ومن الأنبار، ومن تكريت، ومن بقيّة المحافظات، ثم أنتم في بلدانكم عملتم حُشُوداً شعبيّة. تعرفون الدفاع الوطني المَدَنيّ كان في أوروبا.. أنا استغربتُ عندما بدأ هتلر باحتلال جيكوسلوفاكيا، وثنى ببولندا، ثم عبر إلى الدنمارك، والسويد، وفنلندا، ومن هناك إلى الاتحاد السوفيتيّ، وفرنسا، وشنَّ عمليات أسد البحر على بريطانيا. استوقف ذهني لماذا لم يحتلَّ سويسرا، وهي ليس فيها جيش؟ لقد في سويسرا دفاع وطني مَدَنيّ، ولو كان هتلر دخل سويسرا لتحوَّلت سويسرا إلى مقبرة للجيش النازيّ. في الظـُرُوف الاستثنائيّة كلّ دول العالم تـُؤسِّس جيشاً تـُسمِّيه الجيش الرديف، والقوة المَدَنيّة. مادامت نظريّتنا، وفلسفتنا في الجيش أنه جيش الشعب، وكلُّ الفصائل تنضوي تحت لواء القوات المُسلـَّحة وهي من الشعب، وإلى الشعب، وبواسطة الشعب على حدِّ تعبير لنكولن -الديمقراطيّة من الشعب، وإلى الشعب، وبواسطة الشعب- فما هو المانع؟ الحشد الشعبيّ ليس بديلاً عن القوات المُسلـَّحة، بل ينضوي تحت لوائها، ويُتمِّم عملها، وقد أثبت الآن أنه كلما يحصل التعاون أكثر فأكثر كانت النتائج مُشرِّفة. نحن على مُستوى المُساعَدات التي طلبناها في الامم المُتحِدة قسَّمتها على ثلاثة مُستويات: المُستوى المُلِحّ الآن، والآنيّ هو مُساعَدات خدميّة إنسانيّة بالمال وغيره؛ وحشَّدنا ما لدينا من أدلة وبراهين لكلِّ دول العالم، واستثمرتُ اللقاء في نيويورك العام الماضي لوضعهم أمام أرقام حقيقيّة خُصُوصاً أنَّه كان لدينا مليون وأربعمائة ألف نازح من داخل العراق إلى المُدُن الأخرى، وعندنا مُهاجرون حوالى رُبع مليون واحد تركوا بُيُوتهم، وممتلكاتهم، وذهبوا إلى دول أخرى فحريّ بالعالم أن يقف إلى جانبنا خُصُوصاً أنَّ المعركة لم تبدأ في العراق، وقد لا تنتهي بالعراق؛ فالقضيّة ذات بُعد إنسانيّ، فحشَّدناهم بهذا الاتجاه، وجاءت رُدُود فعل طيِّبة، وتبرَّعت بعض الدول. والمُستوى الثاني الذي طلبنا منهم هو الدعم العسكريّ، وقلنا لهم بصريح العبارة: نحن لسنا بحاجة إلى رجالكم يُقاتِلون نيابة عن رجالنا، لا تـُوجَد لدينا أزمة جُنود، ولدينا العدد الكافي، بل لا نسمح لأحد أن يأتي بقطع عسكريّة، أو يبني قواعد عسكريّة على أرض العراق. المعركة البرّيّة يقودها العراقـيّون وحدهم، ولكننا نحتاج إلى دعم جوّيّ، وإسناد، ومُساعَدات لوجستيّة، وأجهزة كشف للسيطرة على الحُدُود. في إحدى الدول الكبرى زُرتُ أحد مُعسكراتهم ونحن جالسون تسلـَّل مجموعة، فاسترعت انتباهي، فقالوا: انظر هذه في فلان منطقة ونحن جالسون في العاصمة، وهم في أقصى الدولة. قالوا: تحرَّكت مجموعة، وبعد قليل سألتهم، فأخذوني إلى قسم آخر، قلتُ لهم: أين وصلت هذه المجموعة؟ فاتصلوا، وبعد قليل تمّ السيطرة عليهم، وسألتهم، فقالوا: تمَّ القبض عليهم.. العالم الآن عالم تكنولوجيا مُتطوِّرة. ناشدناهم أننا نـُريد مُساعَدات بمختلف أنواع الأجهزة، ونـُريد دعماً جوّيّاً، وطائرات خُصُوصاً أنَّ الحرب ليست تقليدية، وأغلى شيء في المُعادَلة هو الدم، والعراقيّون يُعطون دماءً غير مُتردِّدين، ولا خائفين أبداً، ويتقدَّمون. نحن الآن أمام حُشُود تتبرَّع، وليس لدينا أيّة مُشكِلة، وأبناء القوات المُسلـَّحة العراقـيّة أبطال يستبسلون في الدفاع عن العراق، ولكننا نـُريد مُساعَداتكم في المجالات الأخرى، وذكـَّرناهم بها بقوائم، ونسّقنا مع الأخ وزير الدفاع خالد العبيديّ سواء من الجوار الإقليميِّ، أم المناطق البعيدة بأنه ما تستطيعون أن تـُعطونا على هذا الصعيد. والمُستوى الثالث قلنا لهم: إن الناس الذين تركوا مناطقهم، وغادروا محافظاتهم غداً أو بعد غد سيعودون، ويحتاجون عند العودة -لا تفكر فقط في صفحة الحرب، بل بماذا بعد الحرب. عادة جُيُوش العالم، والساسة الاستراتيجيّون يُفكـِّرون بالأمور قبل وُقوعها. تصوَّر الآن -بإذن الله تعالى- يأتي اليوم، وتتحرَّر الموصل. ما الخطة، كيف سنتعامل مع الموصل بعد أن تتحوَّل من قبضة الاغتصاب الإرهابي إلى قبضة الشرعيّة الوطنيّة العراقـيّة أمنيّا كيف نمنع -لا سمح الله- حالات الثأر وأنا خِرِّيج جامعة الموصل، وهي تركيبة عشائريّة، ومُتعدِّدة الانتماء الدينيِّ، والقوميِّ، والمذهبيِّ، والعشائريِّ، والسياسيِّ. هذه يُراد لها إدارة، وهذا الكم الكبير الذي استدعته ضرورة الحرب ماذا سيكون مصيره بعد أن تنتهي الحرب. هل يزجّونهم في القوات المسلحة، أم يُنسِّبونهم إلى دوائر أخرى؛ حتى لا يتحوَّلوا إلى عالة على الدولة، أو يُشكـِّلوا خرقاً يصدع عُرى الأمن. استثمرنا العلاقات الدبلوماسيّة مع دول العالم، ونحن فاتحتنا بعض الدول، والزيارة الأخيرة إلى الصين التي جئتُ قبل أربعة أيام استجابة لدعوة وزير خارجيّة الصين الذي طلب مني اللقاء عندما التقينا في نيويورك، وتكلمنا معاً، وقال: نحن لسنا في التحالف الدوليِّ لأنَّ سياسة الصين لا تسمح بالارتباط بالتحالفات العسكريّة الدوليّة، ولكن نـُريد أن نـُساعِدكم. قلنا له: أهلاً وسهلاً. نحن نمدُّ يدنا لكلِّ دولة في العالم تـُريد أن تـُساعِدنا، فنحن لم نـُشكـِّل التحالف الدوليَّ، ومن يُرد أن يُساعِدنا فأهلاً وسهلاً، مع شُرُوطنا، وهي: حفظ السيادة، وعدم التدخـُّل في شُؤُوننا. قال: نحن مُستعِدون، ومنذ لك الوقت نسَّقناـ فتحققت الأسبوع الماضي، وتحدَّثنا بما يُمكِن أن تـُقدِّمه الصين إلى العراق في المجالات المُختلِفة، وهكذا بقيّة دول العالم، واستطعنا -الحمد لله- أن ننفتح على هؤلاء، ونحاول أن نجد مُشترَكات بيننا وبينهم؛ حتى يُساعِدونا. الكثير لعِبَ على الحالة الطائفيّة، ويُوجَد تشويه لصورة الثنائيّة المذهبيّة على مُستوى الفكر، والثنائية الطائفيّة على مُستوى الإنسان العراقيِّ، وكأنَّ مدارسنا، ومُستشفياتنا صارت سُنة وشيعة، فقدَّمنا الصورة كما هي من دون تهويل. نحن لا نخجل أن نتحدَّث عن أخطائنا، وليس مطلوباً منا أن نـُزيِّف الواقع، بل المطلوب منا أن ننقل الواقع كما هو؛ حتى عندما يأتون وقد أتوا إلى العراق، وما خرجوا إلا بما قلنا لهم. هذا التجانس الموجود أعتقد أنه قيمة حقيقيّة عُليا يجب أن نـُحافِظ عليها، فلسنا مُحتاجين لأن نـُميِّز بين السُنـّيّ والشيعيّ، ولا مُحتاجين لأن نـُميِّز بين العربيِّ والكرديِّ المُؤسَّسة العسكريّة تحتاج إلى البطل العسكريِّ ذي العقيدة، الذي يتفانى من أجل بلده، ويُقدِّم المصلحة الوطنيّة العراقـيّة على كلِّ شيء، وليكن من أيّة خلفية كانت. الإرهاب لن يُفرِّق بيننا، بل حصدنا كلنا. ما الذي حدث في سنجار التي لم تكن سُنـّيّة، ولا شيعيّة إنما إيزديّة مُسالِمون فعل بهم داعش فعلة نكراء يندى لها الجبين خجلاً وحياءً باعوا بناتهم كإماء، وأرسلوهنَّ إلى الخارج. الإرهاب يستهدفنا جميعاً، ومادمنا مُستهدَفين جميعاً لابدَّ أن يكون الردُّ ردّاً يُعبِّر عن إرادتنا جميعاً، ومثلما يكون فعل الإرهاب كبيراً علينا أن يكون ردُّ فعلنا كبيراً. مرّة أخرى أؤكـِّد أنَّ الظرف الراهن ظرف يتجلـَّى فيه صراع إرادات الخير مع إرادات الشر، ويقف العسكريّون في هذه المعركة مُستبسِلين يُقدِّمون أنفسهم دُرُوعاً لحماية البلد، وشرف لهم. مَن استـُشهـِد نال الحظوة الكبرى. لا يُوجَد أروع من هذا. هذا حُلم يتمناه كلُّ مَن لديه إيمان حقيقيّ بالله تبارك وتعالى. ونحن في شهر الصوم: ((فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)) [النساء : 74].. اللافت في هذه الآية أنها قدَّمت القتل على الغلبة؛ لأنَّ الناس عادة يخافون القتل، لا تـُريدك أن تكون انتحاريّاً، ولا يُوجَد وراء القتل في سبيل الله والوطن شرف أعلى من ذلك. أحيِّي من خلال منبركم هذا كلَّ أبناء قواتنا المُسلـَّحة في كلِّ مكان في خُطوط الجبهة، وأشدّ على أيديهم، وينبغي أن يُواصِلوا الدفاع عن شرف العراق، وشرف العراقيِّين، وحرائر العراق، والثروة العراقيّة، والسيادة العراقيّة، وأتمنـّى لكم في هذا المكان أن تكونوا مصنعاً حقيقيّاً للرجال النوعيِّين، والعسكريِّين النوعيِّين الذين يدخلون طرف المُعادَلة بنوعيّة مُتميِّزة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أسئلة الحُضُور بعد كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريّ:
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: خارطة العلاقات تواجه تحدِّيات ليست قليلة، وهنا يأتي دور المُبادِر، والسياسة الحكيمة التي تعتمدها الحكومة، وكيفيّة تذليل هذه العقبات، وإعادة بناء العلاقات على أساس المصالح المُشترَكة والمخاطر المُشترَكة. ما يربط العراق بدول المنطقة خاصة، ودول العالم عامة مجموعة مصالح ذات طابع اقتصاديّ، والاقتصاد مُعولم، والنتيجة العلاقات تأتي لنا بالأبعد الصينيِّ جغرافيّاً، واليابان، وأستراليا، ونيوزلندا، ومُختلِف مناطق العالم ضمن نظريّة ما يُحقق من مصلحة. وما من دولة من دول العالم إلا بيننا وبينها مصالح. السوق والاقتصاد مُعولم، وليس لدينا مُشكِلة فيها، وقفزت مُفرَدة للاستراتيجيّات الدوليّة وهي المخاطر المُشترَكة تحديداً داعش، أي: ما الذي يجعل الإرهاب المُعاصِر يدكُّ واشنطن ونيويورك، ثم ينتقل إلى أوروبا، ثم جنوب شرق آسيا، ثم أفريقيا، ثم ينتقل إلى العراق، وأفغانستان، وإيران، والسعودية.. الإرهاب خطر مُشترَك؛ وعلى قاعدة المصالح المُشترَكة، والأخطار المُشترَكة يُمكِن رسم خارطة التعامُل مع الدول. ما يجمعنا والبقيّة مساحة واسعة، وهي: المصالح، ودائرة أوسع هي المخاطر. كيف تكون دائرة المخاطر أوسع؟ دعوني أضرب لكم مثلاً من التاريخ: ستالين أقصى الشرق، وتشرشل شيخ الدبلوماسيّة الغربيّة، ومُهندِس الدبلوماسيّة الغربيّة أقصى الغرب ما الذي جمع بينهما في الحرب العالميّة الثانية، وجلسا على طاولة واحدة، وروزفلت، وتشرشل، وستالين، وديكول صاحب نظريّة فرنسا الحُرّة، والتقوا؟ وجود خطر مُشترَك اسمه (هتلر)؛ لأنهم لا يستطيعون التخلص منه ما لم يتفقون، فيجب أن نتوسَّع في دائرة المصالح. أيّ شيء يجمعنا مع الآخرين من مصالح مُشترَكة اقتصاديّة كانت أو أمنيّة، ونتوسَّع بالجزء المُتبقي على الخطر المُشترَك. تنتهي الحرب، ولكلِّ حادث حديث؛ لذا كان ضمن مُتبنـَّياتنا في الدبلوماسيّة العراقيّة أن نتجنـَّب مُواجَهة الأنظمة حتى لو كان لدينا تحفـُّظ عليها. قلنا لهم: الآن ليس وقت فتح خلافات مع الأنظمة، ويجب أن نـُركـِّز على الخطر المُشترَك وهو الإرهاب، وتحديداً داعش. نعتقد أننا بهذه الطريقة نستطيع أن نطوي المسافة، والعالم مُهيَّأ لأنَّ الجميع يشعرون أنَّ الخطر في العراق ليس خطراً عراقيّاً فقط، وأنَّ المعركة ليست عراقيّة-عراقيّة إنما هي عراقيّة مُعولمة، وعناصر داعش ينتمون إلى ديمقراطيّاتهم؛ لذا على هذه الخريطة نستطيع، ونعمل على بناء علاقة جديدة، وأتمنى، وأعمل على أنه عندما تنتهي المعركة مع داعش أن لا ينهدم البناء وما نبنيه، بل يجب أن يستمرَّ، ونقطف ثماره إلى مرحلة ما بعد داعش؛ حتى لا تكون علاقاتنا مع دول العالم ردّة فعل على وجود خطر في العراق. الخطر لا يبقى إلى الأبد؛ ما من حرب دامت إلى الأبد. نـُريد أن تبقى العلاقات التي أقمناها مبنيّة على اقتصاد، وعلى ثقافة، وعلى استحقاقات التاريخ، والجغرافية، والمصادر الحيويّة.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: تـُوجَد شُرُوط في تعيين السفراء، ونحن نطلب سيرة ذاتيّة. لعلك أشرت إلى إحدى الدول، ومن أدبك لم تذكرها، ولكني التقطتُ ولو على سبيل الاحتمال. أن يكون بعضهم من خلفيّة عسكريّة، واردة؛ لأنهم يعتقدون أنَّ طبيعة التحدِّيات الموجودة على الأرض أمنيّة، وعسكرية، ثم ما الذي يمنع العسكريَّ من أن يكون دبلوماسيّاً. الكثير من رؤساء العالم المشهورين بدأوا رحلتهم بالعسكريّة، ثم انتقلوا إلى الدبلوماسيّة، وكانوا ناجحين. أنا أحفظ عدداً كبيراً لا داعي لأن أثقِل مسامعكم. لا يُوجَد تعارُض، ولكن أن يكون مُتورِّطاً بعمل إرهابيٍّ فهذا الكلام نتوقـَّف عنده. أن يكون عسكريّاً فهذا شرف، وأن يكون أمنيّاً هذا شرف، أمّا أن يكون إرهابيّاً فهذا ليس شرفاً، وخطر على بلده، وعلينا، ونحن لو كانت لدينا أيّة وثيقة عن أيِّ سفير مُتورِّط بعمل إرهابيٍّ فلن نستحي في أن نـُطالِب هذه الدولة، ونقول لهم: لا نريده. السيرة الذاتيّة عبَّرت أنه هذا كان بفلان رتبة، وخدم في الجيش، وغير هذا ما كان موجوداً. السياقات المعروفة لدينا إذا وافق وزير الخارجيّة تذهب الموافقة إلى رئاسة الجمهوريّة، فيتمُّ الموافقة عليه. نحن من مبدأ الحرص على فتح العلاقات مع كلِّ دول العالم نـُريدهم أن يكونوا موجودين، لكنَّ هذا يُطبَّق بشُرُوط، منها: أن يكون غير مُتورِّط بعمل إرهابيٍّ، وحين تتوافر لدينا أدلة على تورُّطه بعمل إرهابيٍّ فنحن ضمن سياقاتنا الدستوريّة نـُفاتِح الدولة المعنيّة، ونطلب تحديد موقف. نحن حريصون على العلاقة، ولكننا حريصون أكثر على أن تكون نافذة العلاقة من تلك الدولة لنا ولهم.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: المياه، وحرب المياه مصطلح قرأته في كتاب جاك أتالي كان يتحدَّث عن إلى أين سيؤول العالم في المُستقبَل، وكان أشَّر على حوض النيل. النيل ينبع من الجنوب، ويتجه نحو الشمال يخترق أثيوبيا، ثم السودان، ثم مصر، وماذا سيحصل في وادي الرافدين نحن عندنا دجلة والفرات يأتياننا من تركيا وإيران وسورية، وكان يُؤشِّر إلى وجود مخاطر حقيقيّة. عندنا نوعان من الدول: دول المنبع، ودول الاجتياز، أو التشاطؤ سمِّها ما شئت. الدول المُشاطِئة هي التي يمرُّ بها النهر، ويُوجَد تعريف للنهر الدوليّ، والنهر المحليّ. النهر الدوليّ هو ذلك النهر الذي ينبع من دولة، ويجتاز دولاً أخرى، مثل: نهر النيل. دول المنبع غير دول الاجتياز مثل دجلة والفرات الآن النهر المحليّ هو النهر الذي ينبع من نفس الدولة، وينتهي بالدولة نفسها؛ لأنَّ الدولة العثمانيّة كانت الدولة الأولى قبل الحرب العالميّة الأولى، فكان دجلة والفرات نهرين محليِّين. تنشأ من الدولة العثمانيّة، وتنتهي بالدولة العثمانيّة نفسها. أمّا الآن فالعراق دولة قائمة برأسها، فينبع من تركيا، فلا تركيا عاصمة الدولة العثمانيّة، ولا نحن جزء الآن من الدولة العثمانيّة؛ إذن نحن دولتان. ويبدو لي أنَّ هذا فيه خلافات. في 2004 وجَّه أردوغان دعوة لي، وكان في ذاك الوقت رئيس وزراء إلى تركيا، وأنا أثرتُ مسألة المياه، وكنا نجلس في بيته، ولديه الغرفة عِدّة غُرَف يجلس فيها الوزراء المتناظرون كلّ 2 في غرفة، فكان يجلس وزير الموارد المائيّة العراقيّة مع وزير الموارد المائيّة التركيّ، وبعد انتهاء جلستهما، يأتيان، ويقولان هذا اتفقنا عليه، وهذا اختلفنا عليه، فجاءا، وقالا: نحن اختلفنا على منسوب المياه، وكنتُ جالسين مع السيِّد أردوغان، ووعدني بأن يحلَّ الأمر، وقال: كن مُطمئِنـّاً، سأستخدم صلاحيّتي الاستثنائيّة في رفع منسوب الماء. وبالفعل رفعه لنا عام 2004، وانعكس على منسوب المياه في العراق، ولكنَّ هذا ليس حلاً دائماً، فنحن يجب أن نضع القضيّة على دِكـّة الحلِّ الاستراتيجيِّ بعيد الأمد خُصُوصاً أنَّ الطرف الآخر لديه مصالح في العراق إذ إنَّ حجم التجارة الخارجيّة التركيّ إلى العراق يبلغ 12 مليار دولار في السنة، وكان قبل أزمة داعش 18 مليار، ومقابل هذا الحجم الاستثماريّ يجب أن نـُحقـِّق مصالحنا؛ هنا تأتي الدبلوماسيّة، فتعالج الأمور بشكل جذريّ ضمن القانون الدوليّ؛ النتيجة لا ينبغي أن يكون النهر مصدر تهديد كمُشكِلة مصر الآن. كنتُ أحبُّ أن نـُمازج تجربتنا في دجلة والفرات مع تجربة مصر في النيل التي بقيت تتهدَّد بين فترة وأخرى. كان بيني وبين السيِّد سامح شكريّ وزير الخارجيّة حديث؛ للاستفادة من تجربة مصر، وكيفيّة مُعالـَجة مشاكلها مع دول حوض النيل. هذه مُشكِلة عالميّة سمَّاها بول فندلي (حرب المياه) بالفعل نراها حرباً، فليس شرطاً أن تكون الحرب بالسلاح، بل قد تمون بالخنق الاقتصاديّ، وقد سبق لي أن قلتُ للسيِّد (غول) رئيس جمهوريّة تركيا السابق: عندما ينخفض منسوب الماء يتهدَّد الإنسان العراقيّ، والزرع العراقيّ، والتراب العراقيّ، والحيوان العراقيّ، والأرض العراقـيّة، والحضارة العراقـيّة، وقلتُ له: الحضارة في العالم كلـِّه بدأت في بداية الألف الرابع قبل الميلاد من أهوار العمارة، والناصريّة، والبصرة، فالفلاح لا يحتاج أن يشاهد انخفاض منسوب الماء من خلال التلفزيون، إنما يقول: تركيا فتحت الماء، فصعد، وتركيا أغلقت الماء فنزل. أنتم أمام الفلاح العراقيّ، وأمام الحضارة العالميّة كلـِّها ليس فقط الحضارة العراقيّة، فقال: أوَّل مرّة أسمع هذا التوصيف. نحن يُراد لنا عمل مرّة أخرى على الصعيد الدوليِّ، ويُراد لنا عمل على صعيد العلاقات. بقدر ما تـريد يجب أن تـُعطي.. هناك مصالح بيننا وبينكم. ترون كيف أنَّ الدبلوماسيّة تمتزج مع الأمن، وتمتزج مع الاقتصاد، والتجارة، والسياحة، والنقل.. نأمل أن نـُوفـَّق في تحقيق هذه الطموحات.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: له وثيق الصلة. نحن لا نعيش اليوم عالم الغيتو الحصار.. نحن نعيش عالم الانفتاح، فلا يُمكِن التفكيك بين الداخل العراقيِّ والخارج العراقيِّ على الإطلاق خُصُوصاً إذا نظرت إلى مُركـَّب الإرهاب فيه الدول التي تبعث الإرهابيِّين، ودول تـُدرِّب الإرهابيَّ، ودولة ثالثة تـُموِّل الإرهابيَّ، ودول رابعة تدعمه بإعلام إرهابيّ، وخامسة تتفيقه باسم الإرهاب، وتـُقدِّم فقهاء على المنابر يشرعنون العمل الإرهابيّ. انت لا تستطيع أن تقول دولة واحدة يجتاز الإرهابيّ عبر أراضيها، ويأتي إلينا. كلُّ هذه الدول يجب أن نضعها أمامنا، ونضع مُركـَّبنا الأمنيَّ في مُقابل مُركـَّب الإرهاب، وحتى في الاقتصاد أمامنا أسواق مُشترَكة بيننا وبين دول المنطقة عندما نـُحسِّنها ستنعكس على علاقاتنا بها، وعلاقاتنا الأخرى كلما تتطوَّر نستطيع أن نفتح بعض المغاليق بيننا وبينها، وهناك علاقات دبلوماسيّة جيِّدة، ووقوف إلى جانبنا في المُنتدَيات الدوليّة، وتـُوجَد بعض الدول ظاهرها كباطنها معنا بشكل جيِّد، وكلما يمضي الوقت تتعمَّق، ولكن بعض الأحيان نجد مُواطِنين، ولا نستطيع أن نحكم على الدولة من خلال مُواطِنيها هؤلاء، فيسيئون لهذ العلاقات. لا أنكر أنَّ أحد رؤساء الدول اتصل بي تلفونيّاً، وقال لي: يُوجد إرهابيّان من مُواطِنينا يعبرون من الحُدُود السوريّة-العراقـيّة؛ فأنا لا أتهم هذه الدولة التي اتصل بي رئيسها من خلال هؤلاء الشذاذ، علاوة على ذلك أنَّنا لا ينبغي أن نزهد بالدول التي من حولنا فلديها اقتصاد جيِّد، وفرص استثمار، ولديهم تجربة في الزراعة مُمتدّة، ونحن -للأسف- امتدَّ علينا التصحُّر، وهم امتدَّت عندهم مشاريع التنخيل. الإنسان القويّ الواثق من نفسه ينظر إلى نقاط القوة حتى في عدوِّه، فكيف إذا كان جاره، وصديقه، وأخاه، وشقيقه فمن باب أولى أن يستفيد من تجربتهم، وعندهم استثمار في الشركات مُمتاز جدّاً، وقد اطلعتُ على بعض تجاربهم حين أتنقل بين العواصم أجد أنَّ بعضها إن لم تتفوَّق على أبنية أوروبا فليست بأقلَّ منها في كل مجالاتها. أعتقد أنَّ الفرص مفتوحة، وعلينا أن نصبَّ جُلَّ اهتمامنا على تقريب الهُوّة، وليس عيباً علينا أن نتنافس مع هذه الدول، وأن نسبقها، وهو مبدأ قرآنيّ: ((خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) [المطففين : 26] والعراق لديه مُقوِّمات النهوض. العودة إلى صفحة الأخبار |
|