|
أنس الفكرة ومعاناة التطبيق
قراءات | 02-07-2017
أُنْسُ الْفِكْرَةِ وَمُعَانَاةُ التَّطْبِيْق مَا أَجْمَلَ أَنْ يَنْبَسِطَ الإِنْسَانُ مَعَ مَا يَحْمِلُ مِنْ أَفْكَارٍ، أَوْ يُوَلِّدَ مِنْ مَفَاهِيْمَ، فَهِيَ قَد لا تَسْتَغْرِقُ مِنَ الْوَقْتِ كَثِيْراً، وَلا تُعَانِي مِنَ الصِّرَاعِ مَعَ الضِّدِّ، بَلْ هِيَ مِنْ مُوَلِّدَاتِ الذَّاتِ، وَمُخْتَصَّاتِهَا.. غَيْرَ أَنَّ حَمْلَ الْمَفَاهِيْمِ فِيْ عَالَمِ الذِّهْنِ، وَمِنْ ثَمَّ نَقْلُهَا إِلَى عَالَمِ السُّلُوْكِ يُعَرِّضُ صَاحِبَهَا لِلتَّعَاطِي مَعَ مَنْ يُخَالِفُهَا، أَوْ يُوَافِقُهَا بِالتَّفَاعُلِ سَلْباً أَوْ إِيْجَاباً.. الْعَلاقَةُ بَيْنَ الْفِكْرِ، وَالتَّجْرِبَةِ مُتَكَامِلَةٌ. فَالْفِكْرُ يَصْنَعُ تَجْرِبَةً نَاجِحَةً، وَالتَّجْرِبَةُ تُوَلِّدُ فِكْراً؛ وَبِفِعْلِ التَّرَاكُمِ بِالتَّجْرِبَةِ، وَالاسْتِفَادَةِ مِنْ خِبْرَاتِ الآخَرِيْنَ يَتَوَسَّعُ الْعَقْلُ بِالاسْتِنْتَاجِ، وَالتَّوْلِيْدِ، وَهُوَ مَا أَكَّدَهُ أَمِيْرُ الْمُؤْمِنِيْنَ -عليه السلام-: ((التَّجْرِبَةُ عَقْلٌ ثَانٍ))، وَالْعَقْلُ تَنْمُو فِيْهِ قُدْرَتُهُ الذَّاتِيَّةُ مَعَ تَقَدُّمِ الزَّمَنِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِيْنِيَّاتِ الْعُمْرِ لِيَصِلَ عِنْدَهَا إِلى الْمَدَى الأَقْصَى.. وَيَبْقَى لَدَى الإِنْسَانِ الاعْتِيَادِيِّ عَقْلُ التَّجْرِبَةِ مُتَوَاصِلاً بِالنُّمُوِّ. قَالَ (عليه السلام): ((الْعَقْلُ عَقْلانِ: عَقْلُ الطَّبْعِ، وَعَقْلُ التَّجْرِبَة)).. غَيْرَ أَنَّ حَقِيْقَةَ الْمَفْهُوْمِ فِي الذِّهْنِ غَيْرُ حَقِيْقَةِ التَّطْبِيْقِ فِي الْوَاقِعِ، وَيَحْتَاجُ حَامِلُهَا إِلَى جُهْدٍ إِضَافِيٍّ، وَزَمَنٍ قَدْ يَطُوْلُ لِنَقْلِهَا لِلآخَرِيْن.. وَهُوَ مَا يَجْعَلُ الأَفْكَارَ نَفْسَهَا مُتَفَاوِتَةً لَيْسَ فَقَطْ مِنْ حَيْثُ طَبِيْعَتُهَا، وَإِنَّمَا مِنْ حَيْثُ حَامِلُهَا كَمُعْطٍ، وَالْمُخَاطَبُ بِهَا كَمُتَلَقٍّ؛ وَهُوَ مَا جَعَلَ عَمَلِيَّةَ "التَّثَاقُفِ"، أَيْ: تَبَادُلِ الثَّقَافَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ النَّاس.. وَيَتَأَثَّرُ بِعَوَامِلَ نَفْسِيَّةٍ، وَبِيْئِيَّةٍ، وَعَائِلِيَّةٍ، وَسِيَاسِيَّةٍ؛ وَهُوَ مَا جَعَلَ الْحَقِيْقَةَ الْفِكْرِيَّةَ الْوَاحِدَةَ لا تَتَجَلَّى بِشَكْلٍ وَاحِدٍ لَدَى الْمُخَاطَبِيْنَ بِهَا كَمَا أَنَّهَا لا تَتَجَسَّدُ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَدَى كُلِّ الْمُؤْمِنِيْنَ بِهَا لا لِشَيْءٍ إِلا لِتَدَاخُلِ هَذِهِ الْعَوَامِلِ؛ مِمَّا يَجْعَلُ حَامِلَ الْفِكْرَةِ، وَالدَّاعِيَ لِهَا أَمَامَ جُهُوْدٍ مُضْنِيَةٍ لإِيْصَالِهَا، كَمَا أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ مَسْؤُوْلِيَّةَ تَجْسِيْدِهَا فِيْ سُلُوْكِهِ قَبْلَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.. رُبَّمَا يَتَشَابَهُ الْكَثِيْرُ مِنْ حَمَلَةِ الأَفْكَارِ لَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُوْنَ فِي الالْتِزَامِ، وَمُتَفَاوِتُوْنَ فِي التَّجْسِيْدِ لَيْسَ ذَلِكَ فِيْ مَجَالِ الْمُمَارَسَةِ السُّلُوْكِيَّةِ فَحَسْبُ بَلْ تَتَّسِعُ لِلْمَجَالِ الْمِهْنِيِّ فِي الاخْتِصَاصَاتِ الْمُخْتَلِفَة.. وَبِمِقْدَارِ مَا تَكُوْنُ عَمَلِيَّةُ التَّطْبِيْقِ صَعْبَةً، وَقَدْ تَكُوْنُ شَاقَّةً بِمِقْدَارِ مَا تَهَبُ صَاحِبَهَا عِنْدَ الالْتِزَامِ بِهَا رَاحَةَ الضَّمِيْرِ، وَأُنْسَ الانْسِجَامِ مَعَ مَا يَعْتَقِدُ بِه.. فَشِعَارَاتُ التَّضْحِيَةِ، وَالإِصْلاحِ، وَالإِيْثَارِ، وَغَيْرُهَا قَدْ تَأْتِي عَلَى لِسَانِ الْكَثِيْرِيْنَ لَكِنَّهَا لا تَبْلُغُ رَوْعَتَهَا كَمَا لَدَى الْمُضَحِّي بِحَيَاتِهِ فِي جَبَهَاتِ الْمُوَاجَهَةِ، وَكَذَا قَدْ يَسْهُلُ تَرْدِيْدُ شِعَارَاتِ مُحَارَبَةِ الْفَسَادِ وَالاصْطِفَافِ إِلَى جَانِبِ الإِصْلاحِ، أَوْ إِطْلاقِ ادِّعَاءَاتِ الإِيْثَارِ، وَهِيَ غَيْرُ الثَّبَاتِ عَلَى مَوَاقِفِ التَّجْسِيْدِ، وَعَدَمِ الْحِيَادِ عَنْهَا.. وَمَا لَمْ يُتَوَّجْ أُنْسُ الْفِكْرَةِ بِإِكْلِيْلِ الْمِصْدَاقِيَّةِ لا يَبْلُغُ مَدَاهُ الأَقْصَى فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا؛ وَهُوَ مَا جَعَلَ الشَّهِيْدَ مُرَبِّياً بِجَدَارَةٍ.. أَخَذَ بِصِدْقٍ، وَجَسَّدَ بِصِدْقٍ، وَضَحَّى بِصِدْقٍ؛ وَبِذَلِكَ تَحَوَّلَ إِلَى مُرَكَّبِ عَظَمَةٍ بِالْفِكْرِ الَّذِيْ حَمَلَهُ وَالنَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَشَبَّعَتْ بِهِ، وَبِالتَّرْبِيَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا وَبِالنَّشْء الَّذِيْ رَبَّاهُ، وَالآثَارِ الَّتِيْ خَلَّفَهَا، وَهَذِهِ مَا تَجْعَلُهُ وَاسِعَ الأَخْذِ، وَوَاسِعَ الْعَطَاء.. وَأَنَّهُ وَإِنْ مَاتَ لَكِنَّهُ كَمَا يَبْقَى حَيّاً عِنْدَ رَبِّهِ، وَيَحْظَى بِرِزْقِهِ يَكُوْنُ حَيّاً بِمَا يَتْرُكُ مِنْ فِكْرٍ، وَمِنْ ذُرِّيَّةٍ، وَمِنْ طُلّابٍ، وَمِنْ مَشَارِيْعِ بِنَاءٍ مَادِّيَّةٍ، وَمَعْنَوِيَّة.. لا تَتَحَقَّقُ مَسِيْرَةُ التَّوْفِيْقِ هَذِهِ رُغْمَ مَا تُوَاجِهُ مِنْ صُعُوْبَاتٍ، وَتَتَسَبَّبُ بِمُعَانَاةٍ إِلا بِالتَّوَجُّهِ الْخَالِصِ إِلَى اللهِ –تَعَالَى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69]
الأربعاء 13/ذو القعدة/1437 الموافق 17/8/2016 |
|