|
أخلاقية العطاء "بالبذل والتسامح"
قراءات | 12-06-2017
أَخْلاقِـيَّةُ الْعَطَاء لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ يَتُمَّ الْبَذْلُ وَالتَّسَامُحُ مَعَ الْمُسِيْئِيْنَ عِنْدَمَا تَكُوْنُ إِسَاءَاتُهُمْ شَدِيْدَةً غَيْرَ أَنَّ النُّفُوْسَ الْكَبِيْرَةَ الَّتِيْ تَتَمَتَّعُ بِثَرْوَةٍ أَخْلاقِيَّةٍ عَالِيَةٍ لا تَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَدٍّ مِنْ حُدُوْدِ الْبَذْلِ، بَلْ تَتَّجِهُ نَحْوَ التَّسَامُحِ عَلَى الآخَرِيْنَ رُغْمَ كُلِّ مَا بَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ إِسَاءَة خُصُوْصاً أَنَّهَا تَتَوَخَّى إِحْدَاثَ أَبْلَغِ الأَثَرِ عَلَى الإِنْسَانِ الآخَرِ، وَلا تَجِدُ بَاباً أَوْسَعَ مِنْ بَابِ التَّجَاوُزِ عَنِ الْمُسِيْءِ؛ مِمَّا يَعْنِي الْغَضَّ عَنْ ذَنْبِهِ، وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْه.. مَنْشَأُ التَّسَامُحِ هُوَ ذَاتُهُ مَنْشَأُ الْبَذْلِ بِالْمَالِ، وَالْبَذْلِ بِالإِحْسَانِ إِنَّهَا مَظَاهِرُ الْكَمَالِ الإِنْسَانِيِّ عَلَى سُلَّمِ الارْتِقَاءِ الْمُتَّجِهِ تَقَرُّباً نَحْوُ اللهِ: )ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَٱلضَّرّآءِ وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ( [آل عمران : 134] يُنْفِقُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مَالِيّاً (فِي السَّرَّاءِ)، وَيُنْفِقُ وَهُوَ فَقِيْرٌ (وَالضَّرَّاءِ) وَرُغْمَ ذَلِكَ يُنْفِقُ. لِمَاذَا؟ لِئَلّا تَمُوْتَ عِنْدَهُ مَلَكَةُ الْبَذْلِ، وَحَتَّى يَتَوَاصَلَ بِالْعَطَاءِ، فَيَكْتُمَ غَيْظَهُ، وَيَحْبِسَ مَشَاعِرَهُ رُغْمَ مَا يُعَانِي مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِوَجْهِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى دَرَجَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْمُسِيْءِ حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَى الْمَرَاتِبِ فِي الإِحْسَانِ إِلَيْه.. هَذِهِ هِيَ الصُّوْرَةُ الْقُرْآنِيَّةُ الَّتِي يُرِيْدُهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ-، وَيُجَسِّدُهَا الرَّسُوْلُ (صلى الله عليه وآله وسلم)هِيَ بِكَامِلِ أَجْزَائِهَا، وَهُوَ بِكَمَالِ أَخْلاقِهِ حَتَّى لَيَصِفَهُ اللهُ -تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ: )وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيْم( [القلم : 4] أَيَّةُ صُوْرَةٍ مِنْ عَظَمَةِ الْخَلْقِ أَرْوَعُ مِنْ صُوْرَةِ تَجَاوُزِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَاتِحاً مُنْتَصِراً لِيَغْمُرَ أَهْلَهَا بِخُلُقِهِ الْفَيَّاضِ، وَعَفْوِهِ الْغَامِر.. يَمْنَحُهُمْ الأَمْنَ تَحْتَ شِعَار: "اذْهَبُوْا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ"، "وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ فَهُوَ آمِنٌ"، "وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"، "وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَهُوَ آمِن". مَنَحَهُمْ الأَمْنَ وَهُوَ الَّذِيْ لَمْ يَأْمَنْ شَرَّهُمْ، بَلِ الْقَائِلُ: "مَا أُوْذِيَ نَبِيٌّ بِمِثْلَ مَا أُوْذِيْت)".. وَعَقْدُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَمَا قَامَ بِهِ طُغَاةُ الْقَرْنِ الْعِشْرِيْنَ كَالدِّكْتَاتُوْر ستالين فِيْ عَصْرِ مَا يُسَمَّى حُقُوْقَ الإِنْسَانِ، وَقَدْ أُلْقِيَ الْقَبْضُ عَلَى عَشَرَاتِ الآلافِ مِنَ الأَسْرَى الأَلْمَان إِثْرَ الْعَاصِفَةِ الثَّلْجِيَّةِ الَّتِي ضَرَبَتْ رُوْسِيَا فِي الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَّانِيَة.. جَاءَتَهُ قَصَّاصَةُ وَرَقٍ كُتِبَ عَلَيْهَا تَمَّ أَسْرُ كَذَا أَلْفٍ مِنَ الْجُنُوْدِ الأَلْمَان مَعَ أَنَّ جَوَابَهُ كَانَ بِبُرُوْدٍ وَبِلا اكْتِرَاثٍ: "لَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى ضُيُوْفٍ لا تَبْخَلُوْا عَلَيْهِمْ بِالرَّصَاص".. هَذِهِ صُوْرَةٌ مِنْ صُوَرِ الْحَضِيْضِ الأَخْلاقِيِّ، أَمَّا صُوْرَةُ السُّمُوِّ الأَخْلاقِيِّ فَهِيَ مَا تَجَلَّى بِالرُّسُوْلِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَمَا أَرَادَ الرَّسُوْلُ بِهَذَا السُّلُوْكِ إِلا أَنْ يَسَجِّلَ انْتِصَارَ الْمَبَادِئِ، وَتَجْسِيْدَ الْقِيَمِ لِيُخْرِجَهَا مِنْ حَيِّزِ الذَّاتِ إِلَى فَضَاءِ الإِنْسَانِيَّةِ الَّذِيْ لا يَخْتَنِقُ فِيْ مَكَانٍ مَا، وَلا يَتَحَيَّزُ فِيْ أَيِّ زَمَانٍ، وَلا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ لِتَأْخُذَ حَجْمَهَا مِنْ حَجْمِ رَسُوْلِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَتَتَجَلَّى عَظَمَتُهَا مِنْ خِلالِ عَظَمَةِ أَخْلاقِه. أَنْ تَغْطُسَ الْمَشَاعِرُ فِي رِمَالِ الذَّاتِ، وَوَحْلِهَا الآسِنِ غَيْرُ أَنْ تَتَجَلَّى بِصُوْرَتِهَا الْمَلائِكِيَّةِ الأَخَّاذَةِ لِتَبْقَى خَالِدَةً مَعَ خُلُوْدِ الزَّمَنِ، وَمُتَجَاوِزَةً بِالإِنْسَانِ بِالثَّبَاتِ رُغْمَ كُلِّ الْمِحَنِ؛ وَبِذَلِكَ تَدْخُلُ فِيْ مِعْيَارِ الْقُوَّةِ مُفْرَدَةٌ جَدِيْدَةٌ إِنَّهَا التَّجَاوُزُ وَالإِحْسَانُ لِلْمُسِيْءِ، وَصَدَقَ اللهُ الْعَظِيْمُ، وَهُوَ يَقُوْلُ: )وَلاَ تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ( [فصلت : 34] الانْتِقَالُ بِالإِنْسَانِ مِنْ قُوَّةِ الْعَضَلَةِ إِلَى قُوَّةِ الْكَلِمَةِ، وَمِنْ مِعْيَارِ الأَخْذِ إِلَى مِعْيَارِ الْعَطَاءِ يَعْنِي تَحْقِيْقَ انْعِطَافَةٍ حَادَّةٍ فِيْ مَسِيْرِ الإِنْسَانِيَّةِ لِتَلْتَقِيَ فِي حَاضِرِهَا إِلَى مَا كَانَ يَصْبُو إِلَيْهِ كُلُّ أَنْبِيَاءِ اللهِ (عليهم السلام)، وَكُلُّ الْمُصْلِحِيْنَ عِبْرَ التَّارِيْخ..
السبت 22/رجب/1437 الموافق2016/4/30 |
|